التضحية من أجل الوطن.. ما هو الثمن؟

في اعقاب مؤتمر القمة العربية الإسلامية الذي انعقد في الرياض بعد 35 يوما من انطلاق طوفان الأقصى والهجوم الوحشي العنصري الذي شنته إسرائيل بكل ما تملك من وسائل القتل والتدمير على قطاع غزة بكامله، وبعد صدور البيان الختامي للمؤتمر بعباراته التقليدية التي تقوم على الشجب والاستنكار والادانة والرفض ومناشدة المجتمع الدولي للتدخل ووقف الحرب، كانت خيبة آمال الجماهير العربية كبيرة للغاية. ذلك ان المؤتمر الذي شاركت فيه 54 دولة تضم 30 % من سكان العالم لم يسفر عن أي إجراءات عملية وفورية ملزمة لتدعم المقاومة وتضع حدا  لجنون الحقد والدمار لدى نتنياهو وزمرته المتطرفة.

وإمعاناً في الغطرسة كثفت إسرائيل من غاراتها على غزة ومن اقتحاماتها لمدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية خلال انعقاد المؤتمر استخفافا بالمؤتمرين، بل خرج نتنياهو يخاطب اعضاء المؤتمر ويقول “على الزعماء العرب الوقوف ضد حماس وعلى زعماء العالم مواصلة اظهار دعمهم لإسرائيل وعدم الخضوع لأي ضغوط”.محاولا تمريرالصورة المزورة بأن الحرب هي حرب حماس وإسرائيل، وليس فصلا مشرفا من فصول النضال الفلسطيني من أجل التحرير والاستقلال.
وبعد المؤتمر ركزت الدعاية الإسرائيلية على الفصل الثالث من حربها الإعلامية لتثيرالشكوك وتطرح عشرات المقولات الخبيثة التي يراد منها تفكيك التماسك الفلسطيني وبعثرة الدعم الجماهيري العربي، والتركيز على كل ما هوسلبي. وللأسف “تقافز” بعض الإعلاميين العرب للبناء عليها.  فكانت مثلا المقولة الأولى تردد انه لا يوجد تكافؤ بين المقاومة وجيش الاحتلال المدعوم أميركياً وأوروبياً. ولذا فالتصدي لجيش الاحتلال انتحار للفلسطينيين. ولكن الحقائق التاريخية تؤكد أن جميع حركات المقاومة الوطنية في العالم تمكنت من هزيمة الاحتلال بعض النظر عن “فارق القوة” بين القوى الوطنية وقوة الاحتلال. هكذا هزم غاندي ومواطنوه بريطانيا، وهزمت كلا من  فيتنام وأفغانستان الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، وهزمت الجزائر المستعمر الفرنسي، وهزم مانديلا ورفاقه المستعمرين في جنوب افريقيا، وغير ذلك. والمقولة الثانية: أن ضحايا الفلسطينيين بالأرواح والممتلكات والارض أكبر بكثير من المكاسب ضد إسرائيل، وكان على المقاومة ان تتوقف منعا لكل هذه الخسائر والقتلى الذين يمكن ان يسقطوا نتيجة للرد الإسرائيلي. والاجابة ما هي حجوم التضحيات التي يمكن تقديمها لأجل تحرير الوطن؟ لقد تكبدت الجزائر مليون شهيد خلال ثورة التحرير، وفقدت خلال فترة الاستعمار الفرنسي 4 ملايين جزائري، وخسرت فيتنام اكثر من 2.5 مليون من مواطنيها لتهزم فرنسا ثم أميركا ذاتها، والتي خسرت 50 ألف قتيل في حرب الاستقلال ضد بريطانيا. والقاعدة التاريخية الإنسانية ان الأوطان لا تقدر بثمن، وتحرير الوطن وحمايته من الاحتلال والاستعمار يستحق كل التضحيات، مهما كانت باهظة لان التحرير هو من اجل المستقبل وإنسانية الإنسان. والمقولة الهشة الثالثة استشارة الآخرين. حيث يجب حسب المقولة الإسرائيلية الخادعة ان تلام المقاومة وبالتحديد حماس لانها لم تسبق عملية طوفان الأقصى باستشارة الشعب الفلسطيني أوالسلطة الفلسطينية أوالدول العربية للحصول على موافقة. هل توجد مقاومة تقوم باستفتاء شعبي قبل ان تبدأ مرحلة جديدة في عملية التحرير؟ بالتأكيد لا. إن الإعلام الغربي والإسرائيلي يركز أن على عبارات كاذبة مثل “حرب إسرائيل مع حماس” وليس حرب إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزة. تماما كما تستعمل عبارة المخربين ضد شباب المقاومة في الضفة الغربية.والمقولة الرابعة: فلسفة التقاعس . إذ تروج إسرائيل من خلال أبواقها ومتصيدي الأفكار أنه ينبغي ان لا تشعر الجماهير العربية بخيبة امل بسبب تقاعس معظم الدول العربية عن اتخاذ قرارات عملية يمكن ان تؤثر على المصالح الإسرائيلية والغربية لتشكل ضغطاً عمليا باتجاه ايقاف الحرب والدخول في أعماق المشكلة، كما أكد الملك عبدالله الثاني، وهي الاحتلال الإسرائيلي ذاته وعدم حصول الفلسطينيين على حقوقهم التي اقرها القانون الدولي. وهنا ينطلق منظرو العجز وفلاسفة التقاعس ليقولوا ان العرب لا يملكون شيئاً أمام أميركا وأوروبا، لا السلاح، ولا الاقتصاد ،ولا التكنولوجيا، ولا الرأي العام  العالمي. فلماذا نلومهم؟ ويتابعون ان العرب كدول نامية تحتاج اوروبا وأميركا في كل شي. هذا التفكير الذي استقر لدى الكثيرين منذ هزيمة 1967 وتطور الى “فلسفة  التقاعس” و”منطق العجز” لا يمكن معه الوصول إلى أي انجاز أو تقدم. هل كان الفيتناميون أو الصوماليون أو الأفغان أو الهنود أو الجزائريون متقدمين  بمستوى أميركا أو بريطانيا أو فرنسا؟. هذه مقولات يراد منها للعربي ان يستكين تفكيره في إطار العجز ونقص الإمكانات وتفوق العدو. والمقولة الخامسة التي تروجها إسرائيل ان حربها على غزة هي  ضد حماس وضد التطرف الديني وتسعى إعلاميا للربط بين حماس وداعش، وكانه لا وجود لـ 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة التي دمرت إسرائيل 60 % من مساكنه وقتلت وجرحت 42000 من الأبرياء. ويجاري الاعلام الغربي الدعاية الإسرائيلية فيطلق على الهجوم الوحشي على غزة تارة “حرب اسرائيل وحماس” او”حرب اسرائيل على حماس” او”الحرب في اسرائيل وغزة” او”اسرائيل في حالة حرب” .والهدف ان ينطلق  نزاع  عربي مع حماس بدلاً من المعتدى الاسرائيلي الذي يمارس عدوانه منذ 77 عاماً وقبل ان تكون حماس.
وأخيرا،علينا أن لا ننسى أبدا أن الصراع العربي الاسرائيلي ليس طارئاً ولا مفاجئاً ، وإنما هو مرتبط بالرعاية الأميركية الأوروبية للوجود الإسرائيلي ذاته القائم على العدوان والإحتلال والتوسع.
ان فلاسفة التقاعس والعجز وبعض الأنظمة العربية لا يريدون قراءة الزمن ولا البرامج الإسرائيلية في الاستعمار والتوسع. لقد اعلنت الصهيونية نواياها واحلامها التوسعية وفكرة “اسرائيل الكبرى” منذ 140 عاما. كما أن القتل الجماعي والإبادة والتدمير وانتهاك المقدسات والمدارس والمستشفيات والتهجير القسري وسلب الأراضي والتزوير والخداع والمماطلة وعدم الإلتزام ونقض العهود هوالنسق التاريخي البنيوي لإسرائيل وليس هناك من مفاجأة.
وبالتالي فالمطلوب عربيا دعم المقاومة بكل الوسائل والخروج التدريجي من الاعتماد المفرط على الأوروبي والأميركي والدخول في بدائل اخرى.
لقد نادى الملك عبدالله الثاني بالاعتماد على الذات منذ أكثر من 15 سنة ومع هذا فالتحرك العربي في هذا الاتجاه بطيء للغاية. وقد اثبتت الأحداث المتتالية ان الغطاء الأميركي لأي دولة مهما كانت درجة تحالفها مع أميركا ينكشف فوراً لصالح إسرائيل. ومن هنا فإن الخروج من فلسفة التبرير والتقاعس اصبحت ضرورة تاريخية مستقبلية إذا كانت الدول العربية تبحث عن سلامة أوطانها.
إن الأوطان أغلى من أي ثمن اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي، وعلى الدول العربية ان تعي خطورة المستقبل الذي تبيته إسرائيل للمنطقة العربية بأسرها ولتنتقل الدول من البيانات إلى الإجراءات مهما كانت الإمكانات.