إطالة أمد الحرب.. والتبعات الاقتصادية

حين تندلع الحروب، تطغى الجوانب العسكرية و الإنسانية و مآلاتها السياسية على غيرها من الجوانب و خاصة الاقتصادية و الاجتماعية والنفسية. غير أن الموضوع الاقتصادي يحتل الأولوية لدى الدول المجاورة نظرا للتأثيرات السلبية للحروب على دول الجوار. و اليوم، تقت رب الحرب المعلنة على غزة والحرب غير المعلنة على القدس والضفة الغربية بكاملها، من إتمام الشهر الخامس ليصل عدد الضحايا الأبرياء 30 ألف شهيد وعدد الجرحى والمصابين 70 ألف مواطن من مختلف أماكن القطاع، وليرتفع عدد الشهداء في الضفة الى أكثر من 750 شهيدا وعدد المعتقلين يتجاوز 7 آلاف معتقل ،إضافة إلى التدمير شبه الكامل لأكثر من 80 %  من مبان و بنى تحتية في القطاع. والواقع أن فلسطين تتعرض اليوم لحرب إبادة جماعية وتجويع وتعطيش بشكل غير مسبوق بالتاريخ الحديث. ومع ذلك تستخدم الولايات المتحدة الأميركية الفيتو لمنع مجلس الأمن من اتخاذ قرار بوقف الحرب ويتوسع التحالف الأوروبي الأمريكي في ضرب الحوثيين في البحر الأحمر في حين تتوسع إسرائيل بضرب أهداف في لبنان وسورية، تحقيقا لهدف إسرائيل بتوسيع الحرب وإدخال دول جديدة، حتى تظهر إسرائيل ليس كدولة استعمارية عنصرية نازية ترتكب أبشع السياسات و المجازر في فلسطين وإنما دولة تقاتل مجموعة من الدول في الشرق الأوسط، على أمل أن يتغير موقف العالم إزاء وحشية إسرائيل ونواياها الاحتلالية البعيدة عن كل قانون إنساني أو دولي. وهكذا أصبحت المنطقة بكاملها متأثرة بما يجري مما انعكس بشكل سلبي على القطاعات الاقتصادية في بلدنا العزيز إضافة إلى انعكاساته الاقتصادية المدمرة في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس. ويسعى التحالف الأوروبي الأميركي بتضخيم العمليات في البحر الأحمر حتى يعطي مبررات قوية لارتفاع أسعار النقل والتأمين وتحويل النقل البحري إلى رأس الرجاء الصالح بدلاً من البحر الأحمر وقناة السويس  التي تأثرت عائداتها بنسبة تقترب من 50 % . أما بالنسبة لنا في الأردن فإن قطاعات كثيرة قد تأثرت بالحرب العدوانية  وتأتي في مقدمتها السياحة، والتي تصل عائداتها في الظروف الطبيعية إلى 
16 % من الناتج المحلي الإجمالي ويعمل فيها أكثر من 55 ألف شخص. إذ تراجعت النشاطات السياحية إلى أقل من 12 % من حجمها المعتاد. وقطاع النقل البري والجوي والبحري الذي تقلص بنسبة لا تقل عن 35 % . من جانب آخر فإن عسكرة البحر الأحمر أثرت بشكل سلبي على القطاعات الإنتاجية في الأردن حيث تمر في باب المندب والبحر الأحمر أكثر من 5 % من المستوردات اللازمة لعمليات الإنتاج، إضافة إلى تأثر التجارة عموما وخاصة الاستيراد من شرق آسيا أو التصدير إليها وإلى دول القارة الأفريقية.
وهنا لا بد من الإلتفات إلى عدد من المسائل، تأتي في مقدمتها إصرار المعتدى الإسرائيلي، وبموافقة الشريك الأميركي، على إطالة زمن الحرب الأمر الذي يعني أن التبعات الاقتصادية السلبية مرشحة للاستمرار، وأن عودة المنطقة إلى الهدوء أو الحالة الطبيعية ستواجه بصعوبات البرنامج الإسرائيلي الهادف إلى تهجير الفلسطينيين وتطبيق النموذج الغزي في حال نجاحه على الضفة الغربية، مما يعني تعميق تأثر القطاعات الاقتصادية الأردنية باستمرار الحرب بكل ما يعني ذلك من ارتفاع في معدلات الفقر وتراجع معدلات النمو الاقتصادي. من جانب آخر فإن التعويل على المساعدات و القروض لن يمكن من المواجهة لأنها غالبا ما تذهب باتجاه سداد التزامات الحكومة وليس القطاعات الاقتصادية.
لقد أشار جلالة الملك عبدالله الثاني إلى المسألة الاقتصادية بقوله « إن الاقتصاد الأردني بعد 7 أكتوبر لن يكون كما كان قبله، ولا بد من إعطاء التعاون و التشارك بين القطاعين الخاص والعام الاهتمام الكافي للتكييف مع الظروف الاقتصادية التي يفرضها العدوان الإسرائيلي على غزة والضفة الغربية».
كل ذلك يستدعي أن تأخذ الحكومة موقفاً أكثر تفاعلاً مع القطاعات الاقتصادية على غرار ما تم خلال جائحة الكورونا. ويتطلب ذلك أولاً: إعداد دراسات مستعجلة حول تاثر القطاعات الاقتصادية المختلفة بالحرب، ليس بهدف تهوين المشكلة وتبسيط تبعاتها، وإنما تفهم أعماق المشكلة ومداخل التعامل معها. ثانيا: تشكيل فريق حكومي يضم الوزراء المعنيين وخاصة وزراء الصناعة والتجارة والسياحة والزراعة إضافة إلى الخبراء ليعقد اجتماعات تفصيلية تفاعلية مع ممثلين عن القطاعات الاقتصادية المختلفة. ثالثا: المباشرة بالتعاون ما بين الحكومة والضمان الاجتماعي والبنوك على طريق الاستجابة لمتطلبات المرحلة بهدف المحافظة القدرات الإنتاجية للاقتصاد الوطني والعمل على عدم اضطرار الشركات والمصانع والمزارع إلى تسريح العاملين فيها بسبب الركود أو ارتفاع الأسعار. رابعا: تنشيط البعثات الدبلوماسية والتجارية الأردنية بهدف فتح أسواق تصدير جديدة للمنتجات الأردنية. خامسا: تنشيط الاستثمار الوطني من خلال شركات مساهمة عامة تساهم فيها جزئيا مؤسسات الاستثمار الرسمية لتمويل المشاريع الكبرى والمتوسطة التي تعتمد على التمويل الوطني ومساهمات المواطنين. سادسا: إنشاء «الصندوق الوطني للطوارئ» برأسمال تساهم فيه الحكومة والبنوك  والشركات الكبرى لتيسير التعامل المالي مع المتطلبات الاقتصادية اللازمة.
وقد تكون حركة المقاطعة الشعبية للبضائع والمنتجات المستوردة من شركات مؤيدة لإسرائيل نقطة انطلاق إيجابية. ذلك أن المواطنين اقبلوا بثقة أكبر على المنتجات الوطنية البديلة، وهذه مناسبة يمكن أن تحول  تحدي الحرب إلى فرص واعدة من خلال التوسع في مشاريع الإنتاج الوطنية، خاصة وأن 70 % من الاستهلاك الأردني هو من منتجات مستوردة. بمعنى أن هامش التوسع في الإنتاج كبير، وأن إنشاء مشاريع جديدة وخاصة في المحافظات سوف يعطي دفعة قوية للاقتصاد الوطني. إن توقعات وزير المالية لنمو اقتصادي 2.6 % لن تكون كافية، حتى لو تحققت، خاصة وأن نسبة البطالة ما تزال مرتفعة 22.3 %. من جانب آخر فإن الحرب في فلسطين و ما ألقته من آثار على المنطقة و خارجها قد عملت على رفع كلفة الإنتاج وبالتالي أثرت على القدرة التنافسية للمنتجات. الأمر الذي يتطلب العمل المشترك الجاد بين القطاعين العام والخاص لاتخاذ خطوات من شأنها المحافظة على كلفة الإنتاج وعلى القدرة التنافسية للمنتج الأردني.
وأخيرا، فإن تأثيرات الصدمة الاقتصادية تستغرق بعض الوقت حتى تظهر آثارها، الأمر الذي يستدعي التعاون الحقيقي بين مخلف القطاعات حتى يحافظ الأردن على صلابته وصموده واجتياز هذه المرحلة الصعبة من تاريخ المنطقة.