المنعة الاقتصادية في أجواء ملتهبة

ليس هناك من شك، وبعد إلقائها 40 ألف طن من المتفجرات، بأن استمرار إسرائيل في القتل والتدمير في قطاع غزة ومدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، وتحت الغطاء الأميركي، سيؤدي إلى إشعال المنطقة ودخولها مرحلة بالغة الخطورة من عدم الاستقرار وربما الحروب. ورغم إنطلاق التأييد لفلسطين على مستوى الجماهير في جميع انحاء العالم، والعديد من المنظمات الدولية، إلا أن الإجراءات العملية من المجموعة العربية ومن المجتمع الدولي لوقف الحرب وإعادة الاستقرار للمنطقة عن طريق وصول الفلسطينيين إلى حقهم في دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني، هذه الإجراءات ما تزال واهية وربما غائبة، بسبب الانحياز الخبيث الأعمى من الولايات  المتحدة الأميركية وحلفائها لإسرائيل. وقد تركت الحرب آثارها الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية السلبية على المنطقة بأسرها فتأثرت معظمم القطاعات الاقتصادية وتوقف بعضها تماما كالسياحة، وخاصة في الدول المجاورة لفلسطين وفي مقدمتها الأردن ومصر، ناهيك عن سورية ولبنان. أما في فلسطين فقد توقفت عجلة الاقتصاد في كل مدينة وقرية. الأمر الذي يستدعي، إضافة إلى تتبع الشأن السياسي والإنساني والعسكري بكل تفاصيلها، متابعة الشأن الاقتصادي لضمان توفير الظروف والآليات والشراكات لتحقيق معدلات النمو المطلوبة. وفي لقائه مع ممثلين عن القطاع الخاص، بحضور ولي العهد، دعا جلالة الملك عبدالله الثاني إلى العمل على إدامة عمل عجلة الاقتصاد الوطني في هذه الظروف المعقدة التي تمر بها المنطقة بشكل عام والشقيقة فلسطين بشكل خاص. وأكد خلال اللقاء على عدد من النقاط الهامة ابتداء من اهمية مشروع الناقل الوطني لتحلية المياه في العقبة وايصالها الى انحاء المملكة، وضرورة مشاركة القطاع الخاص الأردني في التمويل والتنفيذ، وهو ما كنا نطالب به باستمرار، وانتهاء بالاستمرار في  برنامج التحديث الاقتصادي والاداري، رغم كل التحديات السياسية والاقتصادية التي تجتاح المنطقة باسرها. إن خطاب جلالة الملك، بقدر ما هو موجه للقطاع الخاص، فهو موجه بنفس القوة للحكومة والإدارات الرسمية. إذ لا يستطيع القطاع أن يلعب منفردا دون تعاون مع الحكومة وتشارك بينهما في القرار الاقتصادي على أساس من الثقة والاستمرارية والمبادرات التنفيذية ومشاركة العلماء والخبراء. ذلك أن الشراكة بين القطاعين رغم مرور السنوات على المطالبة بها، وصدور التعليمات والانظمة والقوانين، واقامة المجالس واللجان، وعقد الاجتماعات والندوات والمؤتمرات، إلا أن الشراكة بقيت وكما يقول معظم رجال الأعمال «حبراً على ورق». وما يزال المواطن يرى الاهتمام الرسمي المفرط بالمساعدات والقروض الأجنبية في معظم المشاريع بدلاً من دعوة القطاع  الخاص، بل المواطنين مباشرة، للتمويل والتنفيذ.
وهنا لا بد من التأكيد على عدد من النقاط على النحو التالي: اولاً: ان معدل النمو الاقتصادي ما يزال يراوح حول 2.5 %. وهو رقم متواضع تماما في ظل الزيادة السنوية في السكان والتغيرات المناخية، وبالتالي لا يساعد على تقليص مساحات الفقر وتخفيض معدلات البطالة. وهنا تتجلى أهمية تفعيل الاقتصاد الوطني ومحركه الرئيسي القطاع الخاص والعلم والتكنولوجيا ثانياً: ان العدوان الإسرائيلي المتوحش على غزة والضفة الغربية، وانشغال التحالف الأوروبي الأميركي بالحرب الروسية الاوكرانية والتملق للصهيونية، وضعف المبادرات العربية الفاعلة، وموقف الأردن القوي والمتميز بدعم النضال الفلسطيني ورفض مخططات الاحتلال الإسرائيلي، كل ذلك سيجعل المساعدات والمنح والقروض تتراجع باستمرار. الأمر الذي يدفع باتجاه الاعتماد على الذات، وعلى الإمكانات الوطنية الأردنية في كل اتجاه. ثالثاً: ان على ادارات الدولة بمختلف مستوياتها، وليس المستويات العليا فقط، ان تتفهم طبيعة وتفاصيل الحالة الراهنة ومآلاتها، وبالتالي تغير من أساليب العمل فيها نحو مزيد من الكفاءة والاستجابة والتعاون ودعم كل ما يساعد على تعزيز المنعة الاقتصادية للدولة. رابعاً: ان اتاحة الفرصة للقطاع الخاص الوطني ليأخذ دوره الفاعل في  المشاريع الكبيرة والمتوسطة والصغيرة على حد سواء، وليكون هو العمود الفقري للتمويل والتصميم والتنفيذ والتشغيل، كل ذلك يمثل الآلية الأفضل لحماية الاقتصاد الوطني أو حسب تعبير جلالة الملك، آلية للتحوط لحماية الاقتصاد الوطني. فالاقتصاد الذي يعتمد على تمويل مواطنيه وعقولهم ومهاراتهم وابداعاتهم وادخاراتهم وصناديقهم، وعلى شركاته ومؤسساته في إطار من الشفافية والنزاهة، يستطيع أن يجابه أصعب الظروف دون تراجع أو انكسار. خامساً: ان المؤسسات الرسمية وعلى رأسها الحكومة ينبغي أن لا تكون بعيدة عن الشأن الاقتصادي في جانبه العملي. فمبادرة الحكومة من خلال مؤسسة الاستثمار أو صندوق استثمار الضمان الاجتماعي أو الشركات المملوكة بالكامل للحكومة إلى انشاء شركات مساهمة عامة جديدة لتمويل أو تنفيذ المشاريع الكبيرة من شأنه ان يحفّز المواطنين والشركات على المساهمة بالشركات الجديدة، وبالتالي تخرج الإدارة الرسمية من عقدة التمويل والممّول الأجنبي. وهناك العديد من المشاريع في المياه والطاقة والصناعات الغذائية والزراعية تنتظر مثل هذه المبادرات. سادساً: ليس بالضرورة أن تتمسك الإدارة الحكومية بالمشاريع ذات الحجم الضخم والتمويل الباهظ والفترة الزمنية الطويلة، (وهو ما تفضله المؤسسات التمويلية الدولية) وانما يجب أن تذهب إلى تقسيم المشاريع إلى مراحل يتم تنفيذ كل مرحلة بتمويل ومهندسين ومقاولين أردنيين. ما المانع أن يقسم مشروع الناقل الوطني إلى قسمين: الأول محطة التحلية تنفذه شركة، والثاني خط النقل تنفذه شركة أخرى؟ وما المانع أن تكون التحلية على مرحلتين؟ أو ثلاث مراحل كل منها 120 مليون متر مكعب سنويا؟ فيصبح التمويل أكثر يسرا، وزمن التنفيذ أقصر مدة، والاستجابة الملحة للعجز المائي أسرع تحقيقا؟ 
وأخيراً فإن الظروف الصعبة في المنطقة عموماً، وفي فلسطين بشكل خاص، يتوقع أن تستمر لفترة ليست قصيرة. وإن مواقف الأردن المتميزة في دعم الاشقاء في فلسطين، ورفض سياسة الاحتلال والتهجير ومخططاته الخبيثة، سوف تؤدي الى ضغوط اقتصادية وسياسية على الأردن. ومن هنا فإن التنمية الاقتصادية ممثلة بزيادة القدرة الإنتاجية وخاصة في الصناعة والزراعة والمياه والطاقة والسياحة من شأنها أن تعزز القدرة على المواجهة بل وعلى المساعدة. وذلك لا يتحقق الا اذا انتهت فترة التردد والتشكك الإداري الاقتصادي، ومن ثم الدخول في مرحلة من الشراكة الحقيقية والمبادرات الحكومية الجديدة مع القطاع الخاص للتركيز على المشاريع الإنتاجية، وفق القانون بقراءة مستنيرة، والنظر إلى الاستثمار الوطني المالي والبشري والمعرفي باعتباره ثروة وطنية يجب تنميتها والمحافظة على سلامتها وبناء اقتصاد قوي بمعدلات نمو جيدة، حتى تتراجع البطالة ويستمر الاردن في دوره
 الوطني والعروبي المتميّز.