ظلم سينتهي.. رغم النفاق الأسود

مضى أكثر من أسبوع على عملية «طوفان الأقصى»، والتي استطاعت فيها الفصائل الفلسطينية المقاومة للاحتلال أن توقع في العدو الإسرائيلي خسائر مادية ومعنوية جسيمة، لم تكن في حسبان الغرور والصلف الإسرائيلي الذي يمثله نتنياهو وحكومته المتطرفة، ولا حسبان حلفاء إسرائيل وصانعيها وخاصة الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا.

ومنذ أن تولت حكومة نتنياهو السلطة، بل وقبل ذلك في حكومة لبيد، لم يمر يوم واحد أبداً لم تداهم فيه السلطات الإسرائيلية بكل قواتها ومعداتها الحديثة موقعا فلسطينيا لتقتل وتعتقل الفلسطينيين، سواء كانوا شيوخا أو شبابا أو نساء أو أطفالا. ولم يمر يوم واحد دون انتهاكات استفزازية للأقصى وغيره من الأماكن المقدسة، ودون تدمير بيوت للفلسطينيين، ودون مصادرة أراض هنا وقطع الأشجار هناك، ولم يتوقف التوسع في المستوطنات يوماً واحداً منذ سنوات. وواجهت غزة المحاصرة 6 حروب ولكنها صمدت. ومع هذا فإن الخماسي الاستعماري التقليدي (بريطانيا وأميركا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا) الذي تجاوزت ضحاياه 150 مليون نسمة خلال المائة سنة الماضية، لم تكن تزعجه الإجراءات الإسرائيلية البشعة منذ احتلال فلسطين، ولم تحرك مشاعره الإنسانية أو تحفز التزاماته القانونية عمليات العقاب الجماعي ضد الشعب الفلسطسني، لأن كل ما تقترفه إسرائيل هو جزء أصيل من تاريخ الدول الخمس. وبالتالي لا يرى المخمس الاستعماري ولا يعنيه الظلم والاضطهاد الذي يعاني منه الفلسطينيون منذ 75عاماً. ولم يحرك قتل النساء والأطفال الفلسطينيين، سواء في الشوارع أو تحت الأنقاض، الدموع في عيني بايدن كما فعل  وهو يتكلم عن أطفال إسرائيل واليهود بناء على تقارير ملفقة.

حينما قتلت إسرائيل عام 2003 الصحفية الأميركية راشيل كوري في مدينة رفح ودهست جسمها بالجرافة التي كانت تهدم بيوت الفلسطينيين هناك، لم تتحرك الإدارة الأميركية أبدا، كما أنها لم تتحرك عند اغتيال شيرين أبو عاقلة التي تحمل جوازاً أميركياً. أما اليوم فإن البيت الأبيض يذكر أن هناك 32 أميركا قتلوا في عملية طوفان الأقصى، دون أن يوضح أن أولئك القتلى هم جنود في جيش الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنون يحملون الجنسية الإسرائيلية أيضاً. إن الغرب يسمي كل ما تقوم به إسرائيل «دفاعاً عن النفس وعن المواطنين الإسرائيليين»، أما الفلسطينيون فأي عمل يقومون به هو «مجرد إرهاب». ولا يحق للفلسطينيين في نظر الخماسي الاستعماري الدفاع عن النفس. لقد استمر حصار غزة 16 سنة واعترف جوزيف بوريل ممثل الاتحاد الأوروبي أن ذلك مخالف للقوانين الإنسانية، ومع هذا تواصل الآن الطائرات الإسرائيلية، وبدعم من الدول الخمس، قصف المناطق السكنية في غزة بالقنابل المدمرة والعنقودية والفسفور الأبيض. حتى حين أعلن نتنياهو قطع المياه والدواء والغذاء عن 2 مليون نسمة في قطاع غزة هرعت الدول الخمس لتأييد إسرائيل.
 ومع هذا فإن عملية طوفان الأقصى تؤكد عدداً من الحقائق، لعل في مقدمتها أولاً: أن الشعوب مهما طال زمن القهر والظلم  والاضطهاد الذي تعانيه من المحتل فإنها لا بد أن تنتفض لتكسر هذا الاحتلال، وإن التكنولوجيا لا تقف أمام إرادة الشعوب. ثانياً: أن عقدة نتنياهو «لفبركة أو تصنيع» شرق أوسط جديد حتى لو كان ذلك من خلال قتل الآلاف من الأبرياء سوف تبقى وصمة على جبينه إلى الأبد ولن يكتب لها النجاح. ثالثا: أن العقلية الاستعمارية التقليدية القائمة على السيطرة والاستغلال لم تنته من العقل الغربي، ولا زالت فاعلة في دهاليز الدولة العميقة وخاصة لدى الخماسي الاستعماري مهما تغيرت الإدارات والأشخاص. رابعاً: أن الفلسطينيين بأجيالهم الصاعدة وتشكيلاتهم المختلفة يزداد تمسكهم بوطنهم وحقوقهم يوما بعد يوم وهم مستعدون لدفع الثمن حتى الموت. خامساً: أن إسرائيل، ودورها الوظيفي يتمثل في تمكين الغرب الاستعماري من استمرار السيطرة غير المباشرة على المنطقة، هي الأداة الأكثر فاعلية في استنزاف الدول العربية وتفريقها وبعثرة جهودها. سادساً: أن المساعدات التي تقدمها دول ومؤسسات الخماسي الاستعماري هي أداة سياسية دائماً جاهزة للانقطاع والتوقف إذا كان الأمر له علاقة بإسرائيل. فإذا تحركت إسرائيل باتجاه أي دولة عربية لتحتل جزءا من أراضيها فإن كل مساعدات الغرب ستصبح رهنا بالسكوت والانصياع العربي. سابعاً: إن الجانب الإنساني والأخلاقي والالتزام القانوني معدوم كلية لدى الكيان الإسرائيلي، فلا يمكن الاطمئنان إليه في أي مرفق قد يتمكن منه، سواء الماء أو الكهرباء أو الغذاء أو النقل. فهو يرتب كل ذلك ليكون جزءا من آلته الحربية يستخدمه متى يشاء. ثامناً: ان ما تقوم به إسرائيل اليوم في غزة يمثل حرب إبادة جماعية لأن القصف يذهب للتجمعات المدنية والمباني السكنية.
وهنا ينبغي على الدول العربية التحرك الفوري بالاتجاهات التالية.. أولاً:  تقديم المساعدات والإسعافات لغزة كما يفعل الأردن، ليس بصورة خجولة كما نرى اليوم، وإنما بشكل مكثف. ثانياً: أن تضغط بشتى الوسائل على إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وحلفائها لوقف الحرب وإعادة تدفق المياه والوقود وفتح الطريق والمعابر للدواء والغذاء وكل ما من شأنه أن  يساعد المواطنين في غزة على البقاء. ثالثاً: التوجه الفوري إلى المؤسسات القانونية الدولية وإلى الدول الصديقة وإلى الخماسي التقليدي وهو صديق لمعظم الدول العربية، بالضغط على إسرائيل لإنهاء الحصار حول غزة والذي حولها إلى سجن دائم.
صحيح أن الحركة في النظام العربي بطيئة وضعيفة، ولكن القوى الشعبية ينبغي أن تتحرك للضغط على حكوماتها للعمل السريع لنصرة الفلسطينيين، لأن صمودهم ووصولهم إلى حقوقهم مصلحة لجميع الدول العربية دون استثناء، ولأنه، وكما يؤكد الملك عبد الله الثاني باستمرار، المدخل الفعلي لاستقرار المنطقة ولأمن دولها أمام الأطماع التوسعية لإسرائيل، وأمام الاستنزاف المتواصل للمنطقة. لقد كان طوفان الأقصى نقطة انعطاف تاريخية بالمواجهة والشجاعة والتضحية، والحكمة بإنهاء الانقسام يجب البناء عليها، لتمكين الفلسطينيين من نيل حقوقهم من جهة، وإنهاء الابتزاز الإسرائيلي الأميركي من جهة أخرى.