سياسات القبول.. والتغيير في الجامعات

ما تزال اصداء تحديد أعداد الطلبة المقبولين في بعض التخصصات في الجامعات الرسمية موضوع نقاش وجدال، سواء من حيث قانونية الإجراء، أو النتائج التي ستترتب عليه، أو إمكانية الاستجابة لاحتياجات سوق العمل ومدى التواؤم بين مخرجات التعليم ومتطلبات السوق.

ومرة ثانية ما يزال التفكير على حاله حيث نسرع إلى معالجة النتائج دون مواجهة الأسباب، رغم التجربة التي أثبتت أن « جوهرالعلة ليس في التخصص» وانما في قضيتين أساسيتين لا مهرب من التصدي لهما الأولى أن ضعف معّدل النمو الاقتصادي، 2.5 % سنوياً، وغياب مشاريع إنتاجية باتجاه تصنيع الاقتصاد الوطني، كل ذلك سيبقى سوق العمل هلاميا ضعيفا أمام القوى العاملة مهما كان تأهيلها الثانية ان العبرة فيما يتعلمه ويتدرب عليه الطالب ويتمكن منه من مهارات خلال دراسته لأي تخصص.

والمتتبع لما يجري في الجامعات في دول العالم لا يجد مصطلحات مثل تخصص راكد وتخصص مشبع. إذ تعمل الجامعة على تأهيل الخريج  ليبني مستقبله كما يريد وليعمل في المجال الذي يمكن ان يتفوق فيه وليس بالضرورة بالتخصص الذي التحق به. ولذا لم تغلق تلك الجامعات تخصصات إنسانية مثل الآثار أو التاريخ أو الجغرافيا أو تخصصات تطبيقية مثل الصيدلة والهندسة رغم الوفرة من الخريجين. وعلى سبيل المثال فإن نسبة خريجي الهندسة الذين يعملون في مجال الهندسة في الولايات المتحدة الأميركية لا يتعدى 50 % والعاملون في القانون والمحاماة من خريجي كلية الحقوق لا يتعدى 10 %.
وفي بريطانيا لا يتعدى الخريجون الذين يعملون بتخصصاتهم 50 % من جميع الخريجين. جوهر المشكلة لدينا هو رغبة الطلبة الدخول في تخصصات جامعية محدودة المقاعد وهذا أمر طبيعي. ان ما هو غير طبيعي تدخل الحكومة في كل عام في برامج القبول وأعداد المقبولين، فتوقع نفسها تحت الضغط الشعبي لزيادة الأعداد، فتستجيب للضغوط ولكن على حساب نوعية التعليم ونوعية الخريج. وهذا يستدعي ان تدرس كل جامعة نسب وأعداد ونوعيات من يلتحقون بالعمل من خريجيها، أي دليل التوظيفية، وتتعرف على الإضافات والتطويرات التي قد تمكن خريجيها من العمل حتى لو كان ذلك خارج تخصصهم. ومثل هذا الأمر يتطلب إقرار الجامعة بأنها شريك في تمكين الطالب من صنع مستقبله في وطنه.
وحقيقة الأمر أن الجامعات وبالتالي خريجوها لا يتغيرون بقرارات إجرائية تحاول «معالجة الطلب»، وانما تتغير بالتعمق في التغيير لدى الدولة والتغييرالذاتي في الجامعة للوصول الى النتائج المأمولة. وقد يكون ذلك في الاطار التالي.اولا: تشجيع الطلبة للعمل اثناء الدراسة. فمن شأن ذلك ان يساعد على بناء شخصية الطالب وتعزيز ثقافة العمل والتفهم لمتطلباته، كما وتتيح الفرصة للطالب لأن يكتشف إمكانات أو فرصا لم يكن يعرفها. وتدل الإحصاءات الدولية أن الطلبة الذين يعملون اثناء الدراسة تكون لهم فرص أفضل للالتحاق بوظائف أو أعمال فور تخرجهم. ثانيا: تدريس مادة الريادية وإدارة المشاريع لجميع التخصصات حتى يكون الخريج قادرا على بدء مشروعه بنفسه. والمشاريع الريادية التي يبدأ بها أفراد بداية بسيطة تشكل اكثر من 80 % من حجم الاقتصاد في دول الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال. كما أن 80 % من طلبة الجامعات في الصين يجهزون مشاريعهم قبل تخرجهم من الجامعة وخاصة في الكليات التطبيقية ثالثا: التشبيك الفعال بين الجامعة والقطاع الخاص والأهلي في مختلف النشاطات ابتداء من المجالس الجامعية المتخصصة ووحدات الإدارة مروراً بالتدريب وانتهاء بالبحث التطبيقي المتخصص الذي يساعد على تطوير منتجات المؤسسات المشاركة سواء كانت سلعا أو خدمات رابعاً: دفع مشاريع التخرج للطلبة لتكون قابلة للتطبيق ما أمكن وفاتحة لانخراط الخريج الجامعي في الحياة العملية
خامساً: تمكين الطلبة، ابتداء من السنة الأولى وحتى التخرج من جميع المهارات الحياتية والقيمية والريادية وانتهاء بالمهارات التخصصية والإبداعية. وهذه تتطلب إعطاءها مساحة زمنية كافية حتى لا تكون مجرد مهارات شكلية، كما تتطلب خبراء مؤهلين وليس بالضرورة نفس أعضاء هيئة التدريس.سادساً: تطوير التأهيل المهني ليصبح (4) سنوات، وليس (3) سنوات كما تتجه وزارة التربية والتعليم، ليصبح تأهيلا تكنولوجيا  يحصل الطالب بموجبه على درجة البكالوريوس المهنية أو البكالوريوس التكنولوجية، وبذلك تنتهي «عقدة الشهادة» التي تدفع الطلبة نحو الجامعات.
إن واحدا من أهم الأسباب التي تدفع الأكاديميين إلى التمسك بالوضع القائم سواء من حيث البحوث النظرية أو عدم الاهتمام بمشاركة القطاع الخاص أو متطلبات سوق العمل، هي مسألة الترقية الأكاديمية التي تقوم بشكل رئيسي على الأبحاث المنشورة في المجلات العلمية العالمية المعروفة، وهذا جيد، 
ولكنه غير كاف من منظور وطني ولا بد من التعديل باتجاه الجانب التطبيقي ولو لفترة محدودة كما فعلت الصين وكوريا  وماليزيا واليابان وغيرها. من جانب آخر وحتى لا تتكرر اخطاء الماضي وهي استقبال أعداد من الطلبة أكثر من الطاقة الاستيعابية بسبب الضغوط المجتمعية فمن الممكن أن تعلن كل جامعة مقدما عن طاقتها الاستيعابية في كل تخصص وفق معايير هيئة الاعتماد، وبذا تصبح أعداد الطلبة الممكن قبولهم علنية ومعروفة في كل جامعة وفي أي تخصص، ويستطيع الطلبة أن يعرفوا بصورة تقريبية ما هي الفرص أمامهم، وبالتالي يبرمجون نشاطاتهم واجتهاداتهم على أسس واضحة. وتخرج الحكومة من ساحة الضغوط المجتمعية كما كانت الجامعة الأردنية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
وأخيراً فإن الخطة المطلوبة وضعها من الحكومة وعلى مدى السنوات القليلة القادمة حتى عام 2030 عنوانها «الاستقلال المالي والإداري والأكاديمي الحقيقي المسؤول للجامعات» وتكون العلاقة بين الإدارة الحكومية والجامعات متمحورة على حل المشكلات التي تعاني منها البلاد وتستلزم البحث العلمي والخبرة الأكاديمية. بمعنى أن تصبح الجامعات «عقل الدولة» الذي يواجه الحاضر ويبني المستقبل.