تحديث الإدارة.. الهيكلية أم الموظف؟

في خطة التحديث الاداري، ركز المحور الأول على دمج وزارات وإلغاء وزارات اخرى رغم أهميتها. وفي المحور الثاني (الموارد البشرية) كان التركيز على ديوان الخدمة المدنية واعادة هيكلته أيضا وعدد كبير من الدوائر الأخرى. والسؤال الكبير الذي يتبادر الى الذهن: أين مشكلة الإدارة؟ هل المشكلة الادارية لدينا تتمحور حول هيكلة الدوائر والوزارات؟ أم أن هناك أسبابا أخرى أكثر أهمية؟ لماذا كانت الادارة الأردنية ناجحة وحازمة ومرموقة قبل 30 او 40 سنة؟ رغم البناء الهيكلي البسيط والمباشر لمؤسسات الدولة آنذاك؟ هل العلة لدينا في الصلاحيات الممنوحة لمديري المؤسسات او للوزراء؟ هل يشكو المواطن من الهيكلية الحالية؟ ام من اداء الموظف والمسؤول وطريقة تعامله مع المواطن، وغياب التشبيك الذكي بين المؤسسات؟
ان اعادة الهيكلة التي تنطلق من “مفهوم الأبيض أو الأسود” لن تضيف شيئاً جديداً الى المنظومة الادارية خاصة وأن جوهر الإدارة الحديثة الفعالة يقوم على الموظف الكفء، والتشبيك التشاركي الذكي المنتج بين المؤسسات، للوصول إلى الأهداف المنشودة وفي مقدمتها نهوض الاقتصاد والتيسير على طالب الخدمة.. كما أن كثرة التغيير في التشريعات والمرجعيات، أو ما يسمى “بالهندسة الداخلية” أو “إعادة ترتيب الأثاث”، من شأنها أن تخلخل البناء المؤسسي و تزعزع ثقة المواطن والموظف في المنظومة بكاملها. يضاف إلى ذلك أن الاكتفاء بالتناول التعميمي والشمولي فقط في برامج الاصلاح لا يحقق أي نتائج مفيدة، لأن المشكلات تكمن في التفاصيل و الخصوصيات. ومن هنا لن يتحقق التغيير والتطوير المنشود دون الدخول في قلب المسألة وفي الصميم وبكل صراحة.
تتلخص المشكلة في المنظومة الادارية لدينا في عدد من النقاط تنسحب على معظم المؤسسات العامة لا بد من التعرف عليها، ونقاط ضعف خاصة بكل مؤسسة او وزارة او دائرة لا بد من تحديدها ومواجهتها. وكما ان الجندي هو عماد العسكرية والمعلم عماد التعليم فإن الموظف في شتى المواقع والمستويات هو عماد الإدارة. وبالتالي فإن أي تغيير مثمر يجب أن يبدأ بالموظف، ويمكن الاشارة هنا الى عدد من نقاط الضعف العامة وكما يلي اولاً: الفساد الإداري والمالي وما يتبعه من محسوبية وواسطة في تعيين الموظفين، مما يفتح الباب لدخول الموظف غير الكفء أو غير المؤهل الى الموقع الاداري. ومع مرور الزمن فإن الفساد وغياب الكفاءة تدفع العملية الادارية الى ضعف الأداء والتهرب من المسؤولية وبالتالي الجمود والتراجع. ثانياً: الترقية بالأقدمية، وهذه تجذر حالة من عدم الإنصاف بين المجد المجتهد المبدع، وبين الكسول المتراخي، وتدفع الموظف الى عدم الاكتراث بتطوير امكاناته وتحديث معلوماته وتعلم الجديد الذي أصبح مطلوبا في كل يوم. ثالثا: غياب التأهيل الوظيفي لذات الوظيفة ومحيطها. بمعنى ما الذي يجب ان يتعلمه الموظف في وزارة الصحة مقابل الموظف في وزارة الزراعة؟ مقابل الذي يدخل وزارة التربية والتعليم؟ وهكذا، وحين يترك الموظف دون تأهيل وظيفي مباشر ليتعلم بمرور الزمن ومن تجارب زملائه فهذا يعيق الادارة بكاملها رابعاً: الاستهانة بظروف وحيثيات طالب الخدمة الذي سيتعامل معه الموظف. هل هو المريض في وزارة الصحة ام المزارع في وزارة الزراعة أم المستثمر في مشروع ام المعلم والطالب في المدرسة. خامساً: التحكم بالمواطن. ربما باستثناء دائرة الأحوال المدنية ودائرة السير فما يزال الموظف العام حتى الآن ينظر الى المواطن نظرة الحاكم الى المحكوم ونظرة المتّكرم الى طالب العطاء. ولا يعتبر الموظف نفسه ( في اغلب الأحيان) انه خادم للوطن وللمواطن. بل ويعتقد الكثير من الموظفين أن ارهاق المواطن وتكرار تردده لأبسط الأسباب يعطى الموظف نوعاً من المكانة المرموقة بل والهيبة. سادساً: غياب المؤشرات الرقمية للأداء إزاء البرنامج السنوي بشكل عام، وغياب المؤشرات الرقمية للاداء في كل مؤسسة او وزارة او دائرة إزاء المسؤوليات المناطة بها، والاكتفاء بالوصف والصور الانطباعية. سابعا: عدم تطوير الكثير من النماذج والأوراق التي يصطدم بها طالب الخدمة لتتماشى مع العصر الرقمي. فما يزال الموظف يسال المواطن احضار صور عن كذا وكذا في حين ان بإمكانه الدخول على الرقم الوطني للمواطن ليعرف كافة التفاصيل التي يريد عاشراً: وأخيرا فإن عقلية الموظف وقراءته للقوانين والتشريعات وثقافته الوظيفية والقطاعية هي التي تحكم تصرفاته وسلوكياته الإدارية. وكثيرا ما تكون الثقافة والعقلية بعيدتين عن المرحلة والتخصص ومتطلبات الاقتصاد الوطني وحاجة المواطن.
ومن هنا فإن دمج هذه الوزارة مع تلك، او تغيير مرجعية المؤسات وارتباطاتها الادارية، تشبه استنزاف الحهد في نقل الماكنات من زاوية إلى أخرى بدلا من الاجتهاد في تدريب العاملين عليها. وهذا لن يحدث التغيير الذي يطمح اليه الوطن ويطالب به الملك والمواطن. ان الدول التي نجحت في اداراتها مثل سنغافورة سارت على طريق محدد المعالم وفي الإطار التالي، اولاً: تأهيل الموظف للوظيفة التي سيتسلمها ابتداء من حارس المبنى ( مع الاحترام) وانتهاء بأعلى الهرم. وهذا يستدعى ان يكون في كل وزارة دائرة أو مركز يسمى “مركز التأهيل الوظيفي”. تؤهل الموظف الجديد بدلاً من ان يترك ليتعلم من زملائه ليس الجوانب المهنية فقط وانما البيروقراطية ذاتها. ثانياً: الانتهاء من الترفيع التلقائي بالأقدمية بشكل حاسم وربط الترفيع من درجة الى التي تليها باجتياز دورات محددة تتطور مع الزمن ومع التقدم العلمي والتكنولوجي، ويضع تصميمها وتفاصيلها مركز التأهيل الوظيفي بالتعاون مع الخبراء ثالثاً: تقوم كل مؤسسة بوضع “مصفوفة سنوية” تبين نقاط الضعف وعدم رضا المواطن عن الخدمة التي تقدمها كل دائرة من دوائر المؤسسة والاجراءات التي من شأنها اصلاح هذه النقاط والانتهاء منها خلال فترة زمنية محددة تحت طائلة المساءلة القانونية والادارية. رابعاً: ايقاف قرارات نقل او انهاء خدمات الادارات العليا او احالتها على التقاعد إلا اذا اكمل الموظف المدة القانونية في موقعه باستثناء الحالات التي تستدعي التغيير كالتقاعد بسبب السن او المرض أو عدم الكفاءة أو الفساد وغير ذلك خامسا: يقوم مركز التأهيل الوظيفي بالتعاون مع الادارة العليا و الخبراء في وضع البرامج اللازمة لإعداد الصف الثاني والثالث من الموظفين للمؤسسة سادساً: تقوم المؤسسة بوضع مؤشرات زمنية لإنهاء معاملات المواطنين حسب الاصول. ويمكن تجاوز البطء من خلال اقرار المواطن بأنه يتحمل مسؤولية اي غش او خداع في المعلومات. وهذا من شأنه ان ينهي الكثير من الخطوات البيروقراطية سابعاً: التثقيف الاقتصادي للموظف حتى يتطور لديه الوعي بمتطلبات النمو الاقتصادي، ودور المجتمع بما فيه المستثمرون وإصحاب المشاريع والرياديون، إضافة إلى دور الموظف وزملائه في تحميل الاقتصاد كلفة الفرص الضائعة، والتي تؤدي إلى استمرار رواتب الموظفين ضعيفة وغير متزايدة. وفي نفس الوقت تثقيف الموظف بالدور الاقتصادي للمؤسسة بكاملها، واين يمكن ان تساهم في دفع التنمية الاقتصادية الاجتماعية. وقد نجحت ماليزيا في هذا المجال نجاحاً كبيراً ساعدها على التقدم الذي وصلت اليه. ثامناً: التثقيف الرقمي الجاد للموظف، خاصة وان الدولة تتجه الى الحكومة الالكترونية ورقمنة الاقتصاد. ومن غير الممكن ان يتحقق الانتقال الى الرقمية اذا كان الموظف نفسه يفتقر إلى مهارات وثقافات الرقمية ليتمكن من التعامل مع المعطيات المتاحة على شبكة الانترنت او السحابة الرقمية الخاصة بالدولة او الدائرة نفسها تاسعا: تعريف الموظف بدور مؤسسته ودائرته بل والقسم الذي يعمل فيه في تنفيذ اي من الأهداف التي تلتزم يها الحكومة خلال فترة معينة. فحين يعلن الملك ضرورة التركيز على الأمن الغذائي والأمن المائي على سبيل المثال يبرز السؤال :هل يعلم الموظف ما هي مسؤولية وزارته ودائرته أومؤسسته ازاء هذا الإعلان؟ ابتداء من وزارة الزراعة والمياه مرورا بالبيئة والخارجية وانتهاء بالجامعات؟. وما هو دور الاقسام المختلفة والموظفين والباحثين والاساتذة.؟ عاشرا: الاهتمام بالتعاونيات وصناديق الادخار والإسكانات وترتيبات النقل والمشاريع التي تعود بالنفع على الموظفين وتحسن من ظروفه المعيشية وتكون متداخلة مع حسن الأداء.
ومن هنا فإن التوجه نحو التحديث والتطوير يبدأ بالإنسان أولا، فهو صانع الإدارة ومستقبلها في إطار من التشبيك والتشارك الفعال بين الأطراف. وتأتي الهيكلة بدرجة متأخرة من الأهمية.