المنح والمساعدات.. تعلم الصيد أم أكل السمكة؟

استأنفت قبل أيام عمليات استيراد النفط الخام من العراق والتي بدأت قبل أربعين عاماً، ولكن بشكل متقطع وغير مستقر. ومنذ ذلك الحين، لم نصل إلى توريد منتظم يمكن الاعتماد عليه حتى اليوم. من جانب آخر فإن نمط الاستيراد من حيث وسائط النقل لم يتغير منذ أربعين عاما أيضا. إذ يجري استيراد عشرات الآلاف من الأطنان يوميا فقط بواسطة سيارات الصهاريج ولمسافات طويلة، على الرغم من تزايد الكميات، وما يرافقها من ارتفاع كلفة المادة المستوردة، والتلوث المكثف للبيئة بسبب عوادم السيارات الضخمة واهتلاك الطرق.

كل هذا إضافة إلى الحوادث التي يذهب ضحيتها الكثير من الأبرياء. والسؤال: إلى متى سيبقى الحال هكذا؟ ألم يحن الوقت لإنشاء خط أنابيب لنقل النفط الخام ومشتقاته داخل الأراضي الأردنية سواء من العقبة أو من الحدود الأردنية العراقية؟ ألم يحن الوقت للتعاقد مع العراق ومع السعودية على استيراد النفط وفق اتفاقية طويلة الأجل تساعد على استقرار الأسعار؟ وتمكن الأردن من الاستفادة من الأسعار المستقبلية، وتشجع على الاستثمار في مصفاة جديدة؟.. فالصهاريج للنفط الخام ومشتقاته تقطع ملايين الكيومترات سنوياً داخل الأرضي الأردنية.

إن كلفة إنشاء خط نقل النفط تقع في حدود مليون دينار لكل كيلومتر، فهل تعجز الدولة، وهي تتلقى المنح والمساعدات والقروض عن إحداث التغيير المطلوب؟.

المساعدات

قرر الاتحاد الأوروبي تقديم منحة للأردن بمقدار 342 مليون دولار على مدى السنتين القادمتين. وستصلنا مساعدات ومنح وقروض من الولايات المتحدة الأميركية بما متوسطه 1450 مليون دولار سنويا خلال الأعوام 2023 حتى عام 2029 وكذلك تصلنا منح ومساعدات من دول أخرى عديدة. مع الملاحظة ان خبر المنح والمساعدات لا يدعو الى البهجة كما يظهر في الإعلام، ولا يشكل إنجازا وطنيا، لانه يعبر عن استمرارية الاعتماد على الآخرين بدلا من الاعتماد الذاتي الذي ينادي به جلالة الملك عبد الله الثاني دائما.

المواطن يتساءل اين تذهب هذه المبالغ؟ والاجابة الجاهزة انها جزئيا لدعم الخزينة، وأجزاء أخرى تتوزع على مشاريع ونشاطات خدمية كثيرة متفرقة. ومع هذا فلا أحد يشعر انها تشكل إضافة حقيقية للاقتصاد الوطني تتناسب مع الحاجة الماسة إلى رفع معدلات النمو الإقتصادي.

ان السؤال يثور هنا: لماذا لا تخصص الدولة جزءا من هذه المنح والمساعدات لتمويل المشاريع الأكثر أهمية للاقتصاد الوطني من منظور إنتاجي؟ كمشاريع الصناعات الغذائية والإلكترونية والطاقة الجديدة، أو صناعة الأسمدة والعالم يمر بأزمة خانقة في الأسمدة حسب ما أشار الأمين العام للأمم المتحدة في خطابه يوم 17/9/2022 في الاجتماع السنوي للأمم المتحدة، أو مشروع تحلية المياه في العقبة والذي ينتظر الممولين ونحن بأمس الحاجة للمياه، او مشروع انشاء خط نقل النفط الخام ابتداء من الحدود الأردنية العراقية الى المصفاة ومن العقبة الى المصفاة او مشروع منظومة السدود الترابية لتعزيز الحصاد المائي بشكل جاد وخلال فترة قصيرة، أو انشاء سلسلة من المشاريع الإنتاجية في المحافظات.. والقائمة لا تنتهي.. ان الاكتفاء بالمساعدات لدعم الخزينة وتسديد بعض النفقات هنا وهناك يمثل إعاقة مجحفة لفرص النهوض الاقتصادي.

المراكز السياحية

يتحرك قطاع السياحة بالاتجاه الصحيح، ويحقق هذا القطاع تقدما يدعو للتفاؤل من جهة، ولبذل المزيد من الجهود المبدعة من جهة ثانية. اما عن عدد المواقع الاثرية التي يضمها الأردن فالرقم يتراوح بين 12 ألفا و28 ألف موقع كما يقول الخبراء. وإذا استثنينا عمان فنكاد لا نجد في المحافظات أو الألوية أي معارض أو متاحف للآثار، يمكن للسائح ان يشاهد نماذج من الآثار الموجودة في المحافظة.

والسؤال هنا: لماذا لا تخصص أجزاء من المنح والمساعدات لاقامة مركز سياحي في كل محافظة يضم متحفا خاصا ومكتبة عامة ومعرضا دائما للفنون والصناعت اليدوية التي تتميز بها تلك المحافظة.. كما تخصص أموال لتحسين البنية التحتية والخدمات هناك؟ وتنشأ مع المركز صناعات محلية تصنع نماذج مصغرة من الآثار في تلك المحافظة، إضافة الى كتب ووثائق وأفلام وثائقية يمكن إنتاجها لنفس الأغراض الثقافية والسياحية. السياحة ليس مجرد قدوم سائح، بقدر ماهي استمتاع بالخدمات وتفاعل السائح مع المكان والثقافة والتاريخ، وبالتالي تطوير علاقة خاصة مع الموقع ومع طبيعته وتراثه، وبالتالي مع الأردن بكامله.

لدينا مدن وقرى مثل الكرك، وجرش، وعجلون، وأم قيس، والشوبك والبترا، وبيت راس، وطبقة فحل، والسلط، والبحر الميت (المغطس)، وغيرها العشرات. الا تستحق هذه الأماكن وغيرها الإستثمار فيها من أموال المنح والمساعدات؟ لتصبح واحدة من مدن المحافظة مركزا متكاملاً للسياحة الأثرية والدينية و الثقافية وجاذبة للسياح في نفس الوقت؟

التغذية المدرسية

وزارة التربية والتعليم أعلنت عن البدء بمشروع التغذية المدرسية لهذا العام والتي استفاد منها 50 ألف طالب، ومن المتوقع أن يرتفع الرقم في العام المقبل إلى 90 ألف طالب. وحقيقة الأمر أن موضوع التغذية المدرسية اصبح يحتل أهمية متزايدة على مستوى العالم بالنسبة للطلبة، وبشكل خاص في الدول النامية والفقيرة. وهذا ما حدا ببرنامج الغذاء العالمي أن يتبنى المشروع على مستوى العالم ليضمن تغذية 360 مليون طالب في 165 بلدا، وبالنسبة لنا، فإن أعداد الطلبة الذين هم بحاجة ماسة للإفادة من هذا البرنامج يتراوح بين 500 ألف إلى 600 ألف طالب بكلفة سنوية تتراوح بين 75 إلى 100 مليون دينار حسب نوعية الغذاء.

الإشكال لدينا ولدى بعض الدول النامية، أن هذه المبالغ يجب رصدها سنويا في الموازنة وبشكل منتظم ودائم، وليس حسب الظروف وتوفر المال لدى وزارة المالية، لئلا يسير برنامج التغذية بشكل متقطع، سواء من حيث أعداد الطلبة المستفيدين أو نوعية الوجبة المقدمة لهم، وبحسب ظروف التمويل والمساعدات التي تقدمها الدول أو المنظمات الدولية. مع الملاحظة بأن نسبة الفقر لدينا وصلت 15.7 % ونسبة البطالة 23 %، وأن طلبة المدارس هم الأكثر تأئرا بتبعات الفقر والبطالة.

إن الوجبات المدرسية المدعمة بالإضافات الصحية اللازمة، تلعب دوراً بارزاً في الإرتقاء بمستوى التحصيل والنشاط والتسامح لدى الطلبة، وكذلك تحسين البيئة المدرسية، وجعلها أكثر جاذبية للطلبة، وخاصة في المناطق الفقيرة وفي الأرياف والأطراف. وبالتالي فالتغذية المدرسية استثمار في رأس المال البشري له مردودات إقتصادية وإجتماعية وسلوكية كبيرة.لقد آن الأوان أن يكون هناك مصدر ثابت ومستقر لتمويل التغذية المدرسية، والبدائل لدينا لذلك كثيرة.

منها على سبيل المثال ضريبة إضافية بسيطة على السلع الضارة بالصحة، كالسجائر والمشروبات الكحولية والغازية، والوجبات السريعة والأغذية المصنعة بطرق وإضافات غير صحية. (إن الحصيلة السنوية لإضافة 10 قروش على علبة السجاير تتجاوز 60 مليون دينار). كذلك من مصادر التمويل الممكنة تخصيص نسبة محددة من ما تنفقه الشركات والبنوك في بند المسؤولية المجتمعية للمؤسسات.

إن النهوض بالتعليم يتطلب الكثير من التغييرات التي من شأنها أن تعيد للمدرسة دورها الريادي الذي تراحع في السنوات الماضية، والتي يجب أن لا تتوقف على توفر المنح والمساعدات الخارجية، وإنما ينبغي أن تنتظم وتستدام من خلال الترتيبات الوطنية.