السياسات والعقليات.. قبل القوانين والأشخاص

لعل أهم ما تتصف به إدارة الشأن العام لدينا على مدى السنوات الماضية، يتمثل في الإكثار من تعديل القوانين أوتبديلها، والإفراط في تغيير أشخاص المسؤولين في الإدارات العليا دون أي ضوابط أو محددات إدائية أو زمنية أو دستورية. وكلا الأمرين لا يضيفان شيئاً إيجابياً، بل حملا معهما على مر السنين الكثير من الارتباكات، وعدم استقرار التوجهات الإدارية و الموضوعية، إضافة إلى أعباء مالية متزايدة، و فرص ضائعة، وتخوّف المستثمرين من مثل هذه الأنماط الإدارية.
ورغم تعديل القوانين في كثير من القطاعات والمؤسسات ورغم إعادة الهيكلة من حين إلى آخر، وإنشاء مؤسسات أو هيئات جديدة متفرقة، إلاّ أن العديد من القطاعات ما زالت تعاني الكثير من الصعوبات في شؤونها، وبدرجات متفاوتة، تتراوح بين التهميش والتهشيم كما هو الحال في القطاع الزراعي، وبين الصعوبات المتكررة وبطء الإصلاح والتنفيذ كما نجد في التعليم والصناعة والنقل والطاقة وغيرها. وإضافة إلى الاتحادات النوعية والمنظمات المتخصصة،هناك المجالس العليا مثل المجلس الزراعي الأعلى والمجلس الاقتصادي الاجتماعي والمجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الطبي الأعلى وغيرها، والتي تضم الكثير من الخبراء المتميزين، و يفترض أن تكون شريكة في وضع السياسات وتطويرها، غير أن دورها بقي هامشياً إلى حد كبير نتيجة لتجاوزها باستمرار.
ورغم ما يجتاح العالم من تغيرات، وما يعترض الدول من صعوبات، إلاّ أن الطرق مفتوحة لمن تتوفر لديهم الإرادة والإدارة والسياسات الواضحة. لقد سبقتنا دول كثيرة في بناء مؤسساتها، وتطوير اقتصاداتها، ورفع كفاءة الإدارة الحكومية لديها من أجل تحقيق الأهداف وتنفيذ السياسات الوطنية، في حين بقيت كفاءة الحكومة لدينا متواضعة،حيث يحتل الأردن المرتبة (79) بين 130 دولة ، ودليل كفاءة الحكومة 0.10 مقابل سنغافورة مثلاً التي تتمتع بالمرتبة الأولى و دليل كفاءة 2.5 وتليها سويسرا، وغيرها.
والسؤال الذي يدور في ذهن المواطن: ” لماذا تتراجع قطاعات اقتصادية واجتماعية وسياسية عاماً بعد عام، حتى تصل إلى حافة الانهيار؟ كما وصف وزير الزراعة ورئيس اتحاد المزارعين القطاع الزراعي؟ رغم وجود استراتيجيات وتوجيهات ملكية وقوانين، وجامعات فيها كليات وأساتذة متخصصون في كل مجال، ومراكز أبحاث وبيانات وزارية وتصريحات متواصلة هنا وهناك.
وما ينطبق على القطاعات الاقتصادية ينسحب على القطاعات المجتمعية، فالبطالة تتزايدعاماً بعد عام ومنذ العام 2010 حتى تجاوزت المعدل العالمي ب 3 أضعاف، دون أي سياسة واضحة محددة لمواجهة الموقف، رغم الخطورة الأمنية والمجتمعية والإنسانية، ورغم كل ما نجده على الورق من وعود وبيانات. كذلك فإن المجال السياسي ليس استثناء. فقد بينت الانتخابات البرلمانية المتتالية منذ التسعينيات، حالة التهميش التي تعانيها الأحزاب، وضرورة تغيير قوانين الأحزاب والانتخاب. وفي الأسبوع الماضي صرح وزير التنمية السياسية بالقول ” ان الحكومة سوف تهيىء المناخ المناسب للحياة الحزبية والسياسية”. وهنا يتساءل كل مهتم بالشأن السياسي والعمل الحزبي : “ما قيمة القوانين؟ وكيف ستتحقق الغاية منها إذا كان المناخ غير مهيئا؟ وهل يحتاج الأمر (30) عاماً حتى تسمح الحكومة بالمناخ المناسب؟
المشكلة الكبرى تكمن في إن الإدارة تغيّر القوانين وتستبدل الأشخاص، ولكن تبقي على السياسات و “المناخات” والعقول والمواقف كما هي دون تغيير. لذا تتوالى الأحداث ويستمر نمط العمل. وتكون النتيجة استمرار الأوضاع، بل وتراجعها، بسبب التغيرات و الإضافات المتسارعة التي يفرضها العالم بكل ما فيه.
وهذا يعني أن على الإدارة ، وقبل أن تتفاقم المشكلات لدرجة الاستعصاء، أن تتدارك الأمر وربما في الاطار التالي:
أولاً: أن تكون هناك قناعة مطلقة لدى مراكز صنع القرار إن مجرد تدوير الأشخاص وتبديل القوانين لا يحقق أي تقدم إذا لم تتغير السياسات والتزمت بها الإدارات و إذا لم تتفتح العقول الوظيفية لتترجم النظرة الكلية للموضوع. ثانياً:لابد أن ينتقل التغيير في السياسات إلى الجهاز الوظيفي المعني بهذا القطاع وليس لدى الصف الأول في الإدارة فقط، ويتم تثقيف الموظف وتأهيله على متطلبات السياسة الجديدة ليقرأ النصوص القانونية بعقلية الالتزام بتحقيق الأهداف. ثالثاً: إن بطء الإصلاح، والتردد في وضع سياسات جديدة تقوم على العلم و المشاركة، لا يحقق إلاّ مزيداً من التراجع مهما كانت التبريرات والتفسيرات. رابعاً: إن سرعة التحولات في العالم، في كل شيء، من السياسة إلى الاقتصاد، ومن التعليم إلى الغذاء، ومن الثقافة إلى البحث العلمي، كل ذلك يتطلب تغيير السياسات في الوقت الصحيح، وتطويرها، حتى لا تصبح الدولة تلهث وراء الزمن ووراء الآخرين. خامساً: إن السياسات لدينا ما زالت مبهمة أو غائبة، وغير مقروءة لدى الجهاز الوظيفي الذي يتحمل مهمة التنفيذ والتطوير للقوانين والإجراءات اللازمة للوصول بالوطن إلى أرض صلبة.
وهنا لا بد من الانتهاء من هذه الحالة، والشروع الفوري في وضع سياسات واضحة ومحددة وخاصة لكل قطاع، حتى يعرف المواطن والموظف والمستمثر سياسة الدولة، سواء في الزراعة أو المياه أوالبيئة أوالنقل أوالصناعة أو الطاقة… إلخ. وعلى ضوء هذه السياسات يتم رسم خطوط العمل والتوجهات وإصدار أو تعديل القوانين والأنظمة. إن سياسة الدولة في قطاع معين هي التي المنارة التي تضيء الطريق لقراءة القوانين وتفسيرها والتعامل معها. إن نجاح الدولة أو فشلها في الأداء لا يعتمد على استبدال الأشخاص بقدر ما يعتمد على مؤسسات الدولة من حيث الكفاءة والقدرة على التحديث والابداع. ويعتمد على حسن التوازن بين نفقات المؤسسات والقيمة المضافة في إنتاجها. وهو أمر غائب في العديد من المؤسسات. كما يعتمد النجاح على مدى التشبيك الفعّال بين المؤسسات والقطاعات. إن الجزء الأكبر من مؤسساتنا تعمل كجزر منفصلة، ولعل الزراعة نموذج على غياب هذا التشبيك المتكافىء مع المياه ومع الصناعة والمالية والجمارك. ثم هناك المعوّنات والقروض والتي أصبح توظيفها في تكميليات البنية التحتية سياسة مستقرة ، بدلا من الإنتاج أو التصنيع أو مكننة القطاعات وتحديثها من منظور إنتاجي، أو إنشاء المشاريع الإنتاجية في المحافظات. إن المستقبل المشرق ينتظرنا في المئوية الثانية لبلدنا، إذا فكرنا ورسمنا وعملنا وتشاركنا ونفذنا بطريقة أسرع و أكفأ وأفضل.