الرواتب والغلاء… والحلقة المفرغة

لعلّ الإضراب الذي نظمته نقابة المعلمين واستمر شهرا، وبكلفة اقتصادية مباشرة وغير مباشرة تجاوزت 150 مليون دينار يثير أسئلة جوهرية حول الرواتب والأجور في الأردن. هل هي عالية ومبالغ فيها أم معتدلة ومعقولة؟، وهل هي كافية أم غير كافية؟، خاصة وأن المبررات وراء عدم الرضا تتمثل بالغلاء الفاحش ومشقة العيش من جهة، والشعور بالغبن بسبب الفروق الضخمة جدا بين فئات قد تصل رواتبها ومكافآتها إلى عشرات الآلاف من الدنانير شهريا وبين متوسط الرواتب الحكومية التي تصل 495 دينارا ومتوسط رواتب القطاع الخاص في حدود 480 دينارا من جهة أخرى. هذا في الوقت الذي يعتبر خط الفقر 475 دينارا شهريا للعائلة.
إذا أخذنا الرواتب بالمقاييس الدولية المتعارف عليها نجد أن مجمل الرواتب الحكومية عادة تكون في حدود 10% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، وهي لدينا 13 %. أما متوسط راتب الموظف العام دوليا فهو في حدود 150 % من نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للدولة المعنية، مقابل 195 % في الأردن. “غير أن صغر حجم الاقتصاد الوطني، وفي نفس الوقت تضخم الجهاز الوظيفي يجعل من راتب الموظف الأردني أدنى من نظرائه في بلدان كثيرة، واشتداد الغلاء يجعل الراتب أدنى من القدرة على مواجهة الاحتياجات المعيشية”. ومن هنا، فإن مجرد الدعوة لزيادة الرواتب دون نمو حقيقي جيد في الاقتصاد الوطني، ودون أخذ موضوع ارتفاع الأسعار والغلاء بعين الاعتبار ستدخل الدولة والمواطن في حلقة مفرغة، وطريق مسدود.
يحتل الأردن المرتبة 38 على مستوى العالم في الغلاء، بينما تأخذ تركيا المرتبة 92، في حين تأخذ مصر المرتبة 94. ورغم تصاعد الغلاء سنة بعد سنة، إلا أن الإدارات المتتالية لدينا لم تكلف نفسها مسؤولية دراسة أسباب هذا الغلاء لوضع حدود له. هل يعود الغلاء إلى ارتفاع الأسعار في العالم؟ أم إلى هوامش الربح الضخمة للتجار والوكلاء؟ أم هي الجمارك والرسوم؟ أم كلفة الطاقة والنقل؟ أم تقادم الأرقام دون الاطلاع على مستجداتها؟ أم هي العمالة وانخفاض الإنتاجية وتدني الكفاءة وقلة ساعات العمل المنتجة؟ أم البيروقراطية الحكومية وتكاليفها غير المباشرة؟ أم هي فوائد البنوك وارتفاع كلفة الاستثمار وكلفة التأمين؟ أم هي نسبة التالف من المواد؟ أم هي العمولات غير القانونية التي تتقاضاها ثلة من الفاسدين هنا وهناك؟ عشرات الأسئلة تختلف من قطاع إلى آخر، وينبغي الإجابة عليها في كل قطاع على التحديد، حتى يمكن الوصول الى حلول حقيقية ودائمة، تخرج المواطن من هذه الحلقة المفرغة. ولعل الأردن من البلدان القليلة التي دخلت في “متناقضة الأسعار والعائدات”، فانزلقت نحو حلول مريحة للحكومة وللمستوردين في نفس الوقت، ولكن على حساب المواطن. فالحكومة لم يعد يعنيها ارتفاع السعر في بلد المنشأ، لأن ذلك يزيد من عائدات الرسوم والجمارك التي يتحملها المواطن. والمستورد يحسب أرباحه كنسبة مئوية من السعر الاجمالي (الاستيراد + الجمارك) ويدفعها المستهلك، والمبالغة في الأسعار يرفع من قيمة ضريبة المبيعات التي يدفعها المستهلك. وقد كانت فروق الأسعار هائلة في مئات الأدوية التي تم تخفيضها على دفعات بدأت قبل أشهر وآخرها قبل 3 أيام، بحيث أصبحت بعض الأدوية تباع اليوم ب 25 % فقط مما كانت عليه قبل تخفيض سعرها.كيف؟ ولماذا ومن المستفيد؟ لا أحد يعرف.
وللخروج من هذه اللعبة الصعبة التي تضحي بالمواطن ودخله ومعيشته وبالمستثمر وبالفرص التي يخلقها وبالاقتصاد بكامله والمعيشة المقبولة التي يولدها ، لا بد من ملاحظة ما يلي:
أولاً: إن الغلاء المتمثل بارتفاع الأسعار فوق متوسطها في الدول المجاورة وفوق امكانات المستهلك العادي هو كرة من الثلج تكبر وتتضخم يوما بعد يوم.
ثانياً: إن الغلاء لا ينعكس فقط على المواطن على أهمية ذلك المطلقة، ولكنه ينعكس سلبيا على المستثمر الذي يدرك أن فرص النجاح لديه ستكون محدودة بسبب ارتفاع كلفة الاستثمار وارتفاع كلفة التشغيل. فلماذا لا يذهب للاستثمار في بلد أقل غلاء وأدنى كلفة؟ وهكذا ينزاح الاقتصاد الوطني باتجاه التباطؤ والتضاؤل.
ثالثا: إن عدم معالجة الموضوع يجعل الحكومة تحت ضغط مستمر لزيادة الأجور والرواتب، فتذهب الى زيادة الرسوم والضرائب لتحصل على مزيد من الأموال، فترفع بذلك الأسعار، ويزداد الغلاء. وهكذا يبقى الجميع يدور في دوامة ليس لها قرار. رابعاً: ان برنامج الخصخصة المتسرع الذي افتقر الى الخبرة والرؤية الوطنية بعيدة المدى قد حول أكثر من 50 % من الشركات الكبيرة والبنوك لتكون مملوكة لغير الأردنيين ( دون أي تعصب). بكل ما يعني ذلك من تحويل أرباحها إلى الخارج بدلاً من بقائها في البلاد حتى يعاد استثمارها لتولد فرصاً جديدة للعمل ونمو الثروة الوطنية.
خامساً: إن عقلية “الجباية” التي تمترست فيها الإدارات، قد جعلت الدوائر ذات العلاقة غير معنية بتدقيق أسعار المستوردات وتحديثها. لأنه كلما بالغ المستورد في تلك الأسعار كلما حصلت الحكومة على رسوم وجمارك أعلى.
سادساً: إن ثقافة الاستيراد والعائدات المغرية دفعت الإدارات الرسمية لأن تكون غير معنية بتصنيع الاقتصاد، والانطلاق نحو إحلال المنتجات الوطنية محل المستوردات. فالمستوردات مصدر مضمون للدخل الحكومي. ولذا فتحت أبواب الاستيراد على مصاريعها لكل شيء ابتداء من البصل والثوم وانتهاء بالطائرات، ومن مصادر مختلفة شتى بقاع العالم. وهذا ساعد بقوة على تحجيم الاقتصاد الوطني وقتل توجهات التوسع والتنافسية.
وفي النهاية فإن “مجرد رفع الأجور والرواتب لا يحل المشكلة” و لا يخاطب المستقبل، بل يفاقم الأزمة المالية والاقتصادية معاً. إذ يزداد العجز بالموازنة، وتقصر الرواتب عن تحقيق الاكتفاء المعيشي عاما بعد عام. ولا بد من مواجهة الموضوع بالعمل بكل جدية ومسؤولية على محاور رئيسية خمسة: الأول: أن تقوم كل مؤسسة رسمية بالتعاون مع الخبراء بدراسة أسباب ارتفاع الأسعار في قطاعها وتضع برنامجا عمليا يمكن من خلاله تخفيض الأسعار. الثاني: العمل على تحفيز النمو الاقتصادي بكل الوسائل والسبل، وإحلال المنتجات الوطنية محل جزء من المستوردات تمهيدا للتصدير. الثالث: التوسع في مفاهيم الاقتصاد الاجتماعي والتوسع في صناديق الاستثمار والشركات العامة التي تنشئ المشاريع الانتاجية والجمعيات التعاونية التي من شأنها أن تخفض التكاليف من خلال التنظيم الجماعي. الرابع: وضع حدود وسقوف للرواتب والمكافآت المبالغ فيها جدا والتي تثير لدى الجمهور مشاعر الظلم والإجحاف وتحويل ما يزيد عن السقوف المعقولة الى صندوق تنمية خاص بالأرياف والمناطق الأكثر احتياجا. الخامس: وضع برنامج لمدة 5 سنوات لتخفيض النفقات الحكومية بنسبة 5% في كل عام.