متى تستقر المعلومات…. في المحطة النووية

قد يكون تكرار الكتابة والحديث في ذات الموضوع  مدعاة للملل و عدم الاكتراث، و هذا ربما ما تراهن عليه هيئة الطاقة النووية . ولكن ما العمل إذا كان هناك إصرار على المغامرة والخطأ في مسألة تتطلب التروي والتريث مثل المحطة النووية؟ لا شيء سوى المثابرة على تبيان الحقائق فقط من أجل التصحيح. وعليه فمهما تكون الأسباب والمبررات، فإن الطريقة المتسرعة التي يدار بها موضوع المحطة النووية، وما يصدر من أرقام متضاربة، وافتراضات متناقضة، تحتاج إلى مراجعة و إلى أخذ رأي المجتمع والخبراء بعين الاعتبار. هناك فرق كبير بين الإصرار القائم على التجاهل، وبين التصميم القائم على العلم والمعرفة والمعلومة الصحيحة. وكلنا يتوقع الثاني وليس الأول. وحتى تتضح الأمور، ويطمئن المواطن إلى سلامة القرار في موضوع لا يحتمل الخطأ، لا بد من مراعاة عدد من المسائل تقع مسؤوليتها على الحكومة بالدرجة الأولى، باعتبارها صاحبة الولاية، وعلى هيئة الطاقة النووية بالدرجة الثانية، باعتبارها الهيئة المؤتمنة على المشروع .
الأولى: الشفافية والمعلومات. إذ لم يعد الآن ممكنا لأية حكومة أن تنفذ أي مشروع دون توفير المعلومات الصحيحة المتعلقة به بكل شفافية ووضوح، خاصة وان ثورة المعلومات لم تترك شيئا غير قابل للتدقيق. و لعل أهم ما يميز المشروع النووي في بلدنا هو الغموض والضبابية، سواء في المعلومات أو القرارات أو الوثائق آو الدراسات أو النتائج النهائية. فحين يتنقل المشروع بين أربعة مواقع، من حق المواطن أن يعلم لماذا، وما هي الأسباب. وإذا كانت هناك اعتراضات دولية أو بيئية أو إقليمية فلا بد من الاقتناع بها حتى يمكن الدفاع عنها. هل رفضت دول الجوار وجود المحطة في العقبة ولماذا؟ هل هو قرار وطني يعود إلى التأثيرات البيئية أو الحالة الجيولوجية والزلزالية؟ لا إجابات واضحة.
الثانية المياه: أن تعتمد المحطة على مياه التبريد الصادرة من محطة التنقية ( في الخربة السمراء) ليس هو النظام المعمول به أبدا في المحطات النووية، باستثناء محطة واحدة في العالم هي في الولايات المتحدة. ولكن من أين ستأتي المياه إذا وقع حادث نووي كبير؟ وهو احتمال قائم لا يمكن السكوت عنه أو المغامرة فيه على مدى (40) عاماً، لأنه يعني الدمار والهلاك.. فلماذا لا يسمع المواطن ويسمع الخبراء إجابة صريحة واضحة: من أين ستأتي المياه في حالة الحادثة النووية؟ ولماذا لا تقنع الهيئة الخبراء بوجهة نظرها؟
الثالثة: اليورانيوم فقد تضاربت معلومات وتقارير الهيئة حول اليورانيوم بشكل يثير القلق .فمنذ عام 2007 والمواطن يسمع إخبارا مبعثرة عن شركة تأتي، وأخرى تنسحب ،بما فيها شركة أريفا العالمية ،ويقرأ أرقاما متذبذبة. وكان آخر تصريح لرئيس الهيئة في 17/2/2014 أن لدينا (65) ألف طن يورانيوم في حين أن تصريحه في 4/2/2014 يقول فيه انه سيتم: تحديد كميات اليورانيوم في شهر حزيران القادم. إذا كان الأمر كذلك، فما هي الأرقام التي سبق وان أعلنتها الهيئة خلال السنوات الماضية؟ وكيف أعلنت أن عام 2012 سيكون علم تصدير اليورانيوم؟ وسوف نصدر (2000) طن؟ ولم يتم ذلك طبعا. كيف يثق المواطن بالمعلومة المتسرعة والمتغيرة بهذا الشكل؟
الرابعة: الثروة. ومن جهة أخرى فإن اليورانيوم ليس كالنفط. بمعنى أن مجرد وجوده في بلد يحوله إلى بلد غني كما هو الحال في البلد النفطي. فعدد من دول أفريقيا تنتج اليورانيوم ولكنها متواضعة الحال و كازاخستان خامس منتج لليورانيوم في العالم. ذلك أن سعر اليورانيوم على المدى الطويل يتأرجح حول (150) ألف دولار للطن في أحسن الأحوال. وهذا يعني أن إنتاج (2000) طن سنويا لا يعني أكثر من (300) مليون دولار. ولكن الهيئة تضرب الرقم في (10) وتتحدث عن (3) مليارات دولار سنويا. فمن أين جاءت هذه الثروة الهائلة؟
الخامسة: الاستعمال. يقول رئيس الهيئة للإعلاميين، وهم بطبيعة الحال ليسوا متخصصين ولا يستطيعون المناقشة الفنية في مثل هذا الموضوع، يقول “سيتم تخصيص جزء من اليورانيوم للاستهلاك المحلي وتصدير الفائض” وسوف يوفر بذلك (2) مليار دينار سنويا أي ما يعادل (3) مليارات دولار. وهذا الرقم يتطلب إنتاج (20) ألف طن يورانيوم، فهل سوف يستخرج كامل الاحتياطي الأردني خلال (3) سنوات؟. أي أرقام هذه التي نسمعها؟ وهل نستهلك اليورانيوم الذي يستخرج مباشرة؟ أم لا نملك سوى تصديره  “خام” كما تفعل الدول الأخرى ؟ ونشتري اليورانيوم المخصب والمصنع كسلعة مختلفة بشروط خاصة؟
وإذا كانت المحطة النووية ستغطي (40%) من احتياجاتنا من الكهرباء كما تقول الهيئة، وهو رقم مبالغ فيه، أي (16%) من مجمل الفاتورة النفطية التي ستبلغ (9) مليارات دينار عام 2022 وهذا يعادل(1.4) مليار دينار فقط وليس مليارين. فإذا أضفنا إلى ذلك ثمن الوقود المخصب و بواقع (0.21) طن لكل ميغا واط فإن ما سوف تخفضه المحطة النووية من الإنفاق على الطاقة سيكون في حدود (900) مليون دينار مقابل استثمارات تصل إلى أكثر من (9) مليارات دينار تبلغ فائدتها السنوية أكثر من (600) مليون دينار ونفقات أخرى كثيرة. فأين هي الحكمة الاقتصادية والبيئية والإستراتيجية في كل ذلك؟،مقابل استخدام وتطوير الصخر الزيتي والطاقة الشمسية والرياح، وإنشاء سكة حديد للتوفير في فاتورة النقل؟. ومرة ثانية نقول أن سعر الكهرباء للمستهلك هو متوسط سعر خليط الطاقة من شتى المصادر وهو لن يقل عن 16 قرشاً.
السادسة: الإنتاج. إن إنتاج اليورانيوم عملية تعدينية معقدة تستلزم المياه والتكنولوجيا خاصة وان نسبة تركيز اليورانيوم لدينا ليست عالية وفي حدود (100) جزء في المليون في أكثر المناطق. وقد مضى (7) سنوات حتى الآن والهيئة تتحدث عن اليورانيوم دون أي إنتاج. والتعدين لم يبدأ حتى الآن .. والسؤال لماذا هذا التضخيم والتهويل والتبسيط والتهوين في اليورانيوم وكأنه اكتشاف للنفط؟ ولماذا تكون هيئة الطاقة النووية مسئولة عن تعدين اليورانيوم وهي ليست متخصصة بالتعدين والجيولوجيا.؟ أين سلطة المصادر الطبيعية؟
السابعة: الأثر البيئي: إن دراسة الأثر البيئي للمشروع مسألة هامة للغاية. وحتى الآن لا يجد المواطن دراسة علمية موثقة حول الموضوع لأن اختيار الموقع يتنقل من مكان إلى آخر. وكان من المفروض أن تقوم الهيئة باختيار عدد من المواقع “المرشحة” وتجري الدراسات الاقتصادية والبيئية والزلزالية اللوجستية، وعند ما تستقر على أفضل موقعين تجري الدراسات التفصيلية وخاصة الأثر البيئي من حيث الماء والهواء والإشعاع والصحة والأمن والأمان والطوارئ، وكافة العناصر ذات العلاقة وتصدر تقريرا علنيا بذلك، ليطلع عليه من شاء من الباحثين أو المواطنين. وتكون نتائجه قاطعة لصالح المشروع دون تجميل أو تهوين بل تقديم الحقائق.
ليس الأمر بهذه الطريقة. من حق الهيئة بل ومن واجبها أن تدافع عن وجهة نظرها. ولكن بالأمانة العلمية التي يقتضيها الحال . أما خلط الأرقام هكذا وإلقائها جزافا مضخمة فإنه لا يخدم للوطن قضية. إن عددا من المواضيع التي  تتناولها الهيئة تتطلب دوائر متخصصة ومستقلة تماما، حتى تكون القرارات والتوصيات حيادية وموضوعية وبعيدة عن التوجهات الذاتية. أما الاعتماد على شركات استشارية في كل شيء فهذا ليس بالتوجه الحكيم، فالنتائج التي تخرج بها الشركات الاستشارية تتأثر بالتوجه الذي يضعه صاحب المشروع.  فأين  الخبراء والهيئات المتخصصة الوطنية؟.
وبعد فإن مسؤولية الحكومة أن تتوثق من خلال الخبراء المحايدين الدقة والموضوعية في الأرقام والأفكار. فلم يعد بالإمكان إطلاق أرقام هلامية لا أساس لها. وعلى الحكومة أن تتذكر من خلال الحكمة السياسية و الرؤية المستقبلية و مشورة الخبراء أن المشروع النووي سيبقى معنا بكل ما فيه لأكثر من 40 عاما، في بلد مياهه شحيحة جدا، والتغيرات المناخية فيه قاسية، و إمكاناته التكنولوجية محدودة، و قدراته الاقتصادية متواضعة،والبدائل الأخرى لديه متاحة، والمحطة النووية ليست خالية من المشكلات والحوادث. وكل شيء يتطلب التدقيق والإثبات والبرهان حتى يمكن البناء عليه. فالمستقبل الوطني فوق  كل تعجل ،و فوق كل خلاف.