ميناء غزة العائم.. الاحتيال أو الهروب

لم تمض 24 ساعة على إعلان الرئيس الأميركي بايدن قراره بانشاء ميناء عائم على شاطئ غزة، حتى سارع نتنياهو متقمصاً شخصية هتلر بأنه دائما صاحب القرار ليعلن “أن الميناء العائم فكرته هو، وأنه نقلها إلى الرئيس الأميركي”. فهل النوايا وراء إنشاء الميناء الذي يستلزم عمل 1000 جندي أميركي لمدة شهرين، هل النوايا إنسانية صادقة؟ أم أنها عملية تجميل للموقف الأميركي البشع المؤيد لإسرائيل، والمزود لها دون توقف بالمال والأسلحة والذخائر في حربها ضد 2.3 مليون فلسطيني من المدنيين في قطاع غزة؟ أم أنه باب غير مباشر لتشجيع الفلسطينيين على الهجرة؟ وفي المقابل: هل تعجز الولايات المتحدة عن الضغط على إسرائيل لفتح المعابر والسماح بمرور الاحتياجات الإنسانية من غذاء وماء وكساء ودواء ووقود ومستلزمات البقاء الأخرى؟ بل والضغط عليها لإيقاف هذه الحرب المجنونة؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال، علينا قراءة الصورة التي رسمها اليمين الإسرائيلي  للحرب على غزة ومآلاتها في إطار رد الفعل الدولي. فقد أعلنت حكومة نتنياهو الحرب التدميرية الشاملة، وخلال أيام وبعد توافد القيادات الأميركية والأوروبية إلى تل أبيب وتدفق الخبراء والأسلحة والمعدات والأموال لتدعم الحرب تحولت  القيادة الصهيونية لتسخين جبهة الضفة الغربية والقدس “ولتوظيف الحرب في التخلص من القضية الفلسطينية بكاملها (إذا أمكن) عن طريق القتل والتهجير وتفكيك الأونروا وتطبيق تكتيكات الحرب العالمية الثانية”. ويوما بعد يوم وشهرا بعد شهر وبعد انقضاء 165 يوما على الحرب الوحشية التي استخدمت فيها إسرائيل كامل قواتها العسكرية ووظفت كل وسائل القتل والتدمير، وأحالت مناطق عديدة من غزة الى مجرد ركام، وبعد أن قتلت 32 ألف مواطن بينهم 24 ألف طفل وامرأة وأصابت 75 ألفا آخرين ودمرت المرافق الصحية بكاملها وساوت المرافق التعليمية والأيوائية بالأرض، إضافة لما تقوم به بالضفة الغربية من حرب بطيئة ممنهجة، خلال كل ذلك، عمليا، لم تتحرك الأقطار العربية ولا المجتمع الدولي ولا الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن لإجبار إسرائيل رغما عنها على وقف الحرب ووضع حد لهذا القتل والتدمير. وهنا “تأكد اليمين الصهيوني الحاكم، وعدم اعتراض أميركي خلف الستار، أن الباب مفتوح لتفعل إسرائيل ما تريد: قتل جماعي، تدمير، تهجير، تجويع، تعطيش، اغتيالات. وهنا توسعت الأحلام الاستعمارية الاحتلالية والإحلالية للكيان الصهيوني، فاستحضر صورة اليهود في ألمانيا: “معسكرات اعتقال ومحاصرة شاملة وبعد ذلك تهجير من يستطيع الى فلسطين عن طريق البحر”. لقد عاشت غزة سجنا جمعيا لمدة 17 سنة، واليوم وقد فقد الغزيون كل شيء تقريباً وأصبح التفكير يتركز حول الوجبة اليومية للإنسان بينما تغلق السلطة الإسرائيلية كافة المعابر، ستبدأ الإدارة الأميركية بايصال وجبات الطعام للغزيين من خلال الميناء العائم”، وتشجيعهم.. بشكل مباشر، أو غير مباشر، على الذهاب الى قبرص أو أي بلد آخر، ولو لفترة مؤقتة، حتى يعاد إعمار غزة وتستقر فيها الأوضاع”. وتتطلع إدارة نتنياهو، وإدارة بايدن بالخفاء، أن يستجيب الغزيون للعروض الأميركية غير المعلنة تحت ضغط قسوة الظروف التي خلقتها الحرب ونسجتها الوحشية الإسرائيلية الحاقدة مدعومة بالروح الاستعمارية التقليدية.

 


لقد وصل اليمين الاستعماري الصهيوني إلى قناعة كاملة بأن لا مستقبل لإسرائيل إلا باتباع مبدأ جابوتنسكي بالضغط بكل قوة على الفلسطينيين حتى الاستسلام وهنا يسهل التخلص منهم من خلال طردهم وتهجيرهم من الأرض الفلسطينية. وما نراه في الضفة الغربية من تدمير وتجريف ممنهج للبنية التحتية في القرى والمخيمات يهدف إلى إيصالها إلى ما يشبه الوضع في غزة. وإذا نجح التهجير عبر الميناء العائم فذلك سيكون فرصة لإعادة النموذج في الضفة وعن طريق البحر، بعد أن أعلنت الأردن أن تهجير الفلسطينيين من الضفة إلى الأردن هو خط أحمر بل وإعلان حرب، وأعلنت مصر رفضها التهجير إلى سيناء. إن التهجير عبر البحر سوف يزيل عن كاهل إسرائيل عبء الصدام مع الأردن ومصر. وستعمل إسرائيل على أن تظهر الهجرة طوعية بل وإنسانية وذلك حين تضع الفلسطينيين في حالة من البؤس وفقدان كل مقومات الحياة إلى الدرجة التي ينتظر فيها الناس وجبة الطعام لتصلهم في الجو أو البحر عن طريق الميناء العائم.
وقد تكون القضية الفلسطينية تفتح فصلاً جديداً في تاريخها إذا تنبه الفلسطينيون إلى مؤامرة التهجير وأفسدوا هذه المؤامرة في الوقت المناسب. وهذا يستدعي العديد من الخطوات ربما في الاتجاه التالي أولاً: الإنهاء الفوري للانقسام الفلسطيني على مبدأ “لا غالب ولا ومغلوب” وقبول الفصائل المختلفة في منظمة التحرير وتوافق فتح وحماس نهائيا. فكلاهما مستهدف. ثانياً: تشكيل حكومة فلسطينية إصلاحية بمشاركة متكافئة ومن منظور المصلحة الفلسطينية العليا وليس المصلحة الفصائلية. ثالثاً: التنسيق مع الأقطار العربية الأكثر التزاماً بالقضية الفلسطينية وفي مقدمتها الأردن ثم مصر والعراق والكويت والسعودية لتعزيز صمود الفلسطينيين على أرضهم وتقديم المعونة بأشكالها المختلفة لهم. رابعاً: العمل على المستوى الدولي للاعتراف بالدولة الفلسطينية عضواً كاملا في الأمم المتحدة، ورفع حماس والفصائل الأخرى من قائمة الإرهاب الأميركية الأوروبية.
لقد أثبتت إسرائيل بشكل قطعي أنها غير مستعدة لأي سلام وأنها تعمل بشكل ممنهج على تدمير الوجود الفلسطيني وابتلاع كامل الأراضي الفلسطينية بكل ما فيها وهي تعلم أن الجدار الذي يحول بينها وبين أطماعها الاستعمارية هو الصمود الفلسطيني في إطار نضالي موحد ومتماسك ومتفهم للتغيرات الدولية. فهل تمسك القوى الفلسطينية خيوط العملية في اللحظة المناسبة؟ تلك هي المسألة.