الأمن المائي.. في زمن شديد التقلبات

غالبا ما ينسينا فصل الشتاء وما يهطل فيه من امطار، ينسينا حرج الحالة المائية لدينا ومركزية الأمن المائي للسنوات القادمة في خضم التغيرات المناخية من جهة، والتقلبات الاقتصادية والسياسية العاصفة إقليميا ودوليا من جهة أخرى. ومن هنا حين نتحدث عن الأمن المائي يقفز مشروع الناقل الوطني إلى الصفحة الأولى ليحتل الأولوية. ومع تقدير الجهود المتميزة التي تبذلها وزارة المياه والري والمؤسسات التي تعمل معها أو تحت مظلتها في إدارة الشأن المائي، إلا أن المشروع لم يبدأ تنفيذه حتى اليوم، بل ولم يتم الاتفاق على المقاول لينفذ المشروع، نظرا لإشكاليات التمويل من جهة، وعدم تأهيل سوى شركة واحدة ليس لديها منافسون من جهة ثانية. ومع مرور الزمن وكلما تأخر تنفيذ المشروع كلما ارتفعت كلفته لأسباب كثيرة. فمشروع الناقل الوطني قبل سنوات كانت تقدر تكاليفه بمليار دينار ارتفعت الى مليار ونصف والحديث اليوم على 2 مليار دينار. اضافة إلى أن تأخير المشروع قد فرض ظروفا تزويدية صعبة وبرنامجا قاسيا في توزيع المياه، التي أصبحت الحاجة اليها في تزايد مستمرلاسباب مناخية وسكانية وعمرانية واقتصادية واضحة .وإذا جاز لنا أن نلقي بعض الضوء على أسباب التأخير والتأجيل نلاحظ ما يلي: اولا: كان هناك تعويل على مشاريع مائية ثنائية أو إقليمية، مثل قناة البحر الأحمر – البحر الميت (قناة البحرين)، وتخزين المياه في بحيرة طبريا، والتزام سورية باتفاقية سد الوحدة عام 1987، واتاحة الفرصة لمياه نهر اليرموك لتصل إلى السد بكميات كبيرة مقابل تزويد سورية بالكهرباء. هذا على الرغم أنه تبين منذ عام 1998 أن إسرائيل لا تريد قناة الأحمر- الميت لانها تخطط للسيطرة على المياه من خلال قناة من البحر المتوسط الى البحر الميت ومشاريع أخرى: ثانياً: إن سياسة الذهاب إلى المشاريع الكبرى mega projects في اقتصاد صغيرة الحجم مثل الاقتصاد الأردني وفي منطقة غير مستقرة كمنطقة الشرق الأوسط، ليست هي السياسة الأفضل، لصعوبة التمويل وطول مدة التنفيذ. فمحطة تحلية باستطاعة 350 مليون متر مكعب سنوياً وخط أنابيب يقترب من 450 كم هي مشاريع كبيرة نسبيا لا ينبغي الدخول فيها مرة واحدة .هذا إضافة إلى طول الفترة الزمنية للتنفيذ. والحديث هنا بالنسبة للناقل الوطني عن 6 سنوات، تكون خلالها الزيادة الطبيعية للسكان وصلت في نهايتها 1.2 مليون نسمة باحتياجات مائية اضافية 90 مليون م3،  ثالثا: إن الذهاب الى التمويل الدولي عن طريق المنح والقروض ليس الطريق الأفضل خاصة حين تكون المديونية أكثر من 108 % من الناتج المحلي الإجمالي وحين تكون خدمة الدين العام تتجاوز 2 مليار دينار سنويا. 

ومن هنا، وقبل فوات الأوان، أو إضاعة المزيد من الوقت، لتتفاقم حيثيات المشروع ماليا وتكنولوجيا، فقد يكون من المفيد أن تأخذ الدولة قرارات بديلة يمكن أن تساعد على مواجهة متطلبات المرحلة أولاً:  تقسيم المشروع إلى 3 مشاريع يجري العمل فيها في نفس الوقت، هي: «مشروع تحلية المياه» في العقبة، و»مشروع خط الأنابيب» من محطة التحلية الى عمان وما بعدها، و»مشروع توليد الكهرباء» لتزويد محطة التحلية أو الشبكة الكهربائية ومحطات ضخ المياه. وهذا سوف يؤدي الى دخول شركات متعددة لتنفيذ المشاريع الثلاثة بحكم التخصص. فتكنولوجيا وهندسة التحلية تختلف كلية عن تكنولوجيا وهندسة ضخ ونقل المياه في أنابيب لمسافات طويلة كما تختلف عن تكنولوجيا توليد الكهرباء ثانياً: يمكن تقسيم محطة التحلية إلى 3 محطات استطاعة كل منها 120 مليون متر مكعب سنوياً، وهذا من شأنه اعطاء «فرصة أفضل للتمويل وسرعة الانجاز، واكتساب الخبرة» للإنتاج وللتصرف بالماء الإجاج (الماء المالح) المتبقى من التحلية، وتزويد المشروع بالطاقة. وكذلك يمكن تقسيم خط الانابيب إلى مشروعين كل منهما بطول 225 كم تقريبا. ثالثاً: يجب الاعتماد على التمويل الوطني إلى أقصى درجة ممكنة، من خلال انشاء شركات وطنية مساهمة عامة تشارك فيها الدولة والشركات والبنوك الكبرى ويشارك فيها المواطنون. وسوف يساعد تقسيم المشروع على تنفيذ التمويل دون الحاجة إلى الاقتراض وزيادة المديونية. 

 


صحيح ان المشروع الضخم أقل كلفة لكل وحدة منتجة إلا أن فرق الكلفة يتم دفعه من خلال فوائد القروض وضخامة الاستهلاك السنوي وغياب المقاولين المحليين وتكاليف التشغيل والإدامة، وتكاليف مالية للضمانات وغيرها.
وأخيرا فإن الأمن المائي له تأثيرات مباشرة وعميقة على الأمن الغذائي والأمن البيئي والأمن الصحي وبالتالي على الأمن الوطني. وكلما تراجع الأمن المائي كلما أصبح الأمن الغذائي أعلى كلفة وأكثر اعتمادا على الخارج والتالي أكثر هشاشة، وغدا الأمن البيئي أكثر ضعفا.
ولا خلاف في أن المياه بالنسبة لنا إشكالية معقدة خاصة في ظل عدم استقرار المنطقة وعدم استقرار المناخ، وأن المواجهة تتطلب المثابرة في العمل والبناء التراكمي للمشاريع في إطار العلم والواقعية والتكنولوجيا المعاصرة في كل مجالات المياه، ابتداء من التحلية مرورا بالسدود والحصاد المائي الموسع والاستمطار وانتهاء بالزراعة الذكية والمشاركة المجتمعية في التفاصيل. وهذا يفرض بالضرورة على تعميق الاعتماد على الكوادر والشركات والمؤسسات الوطنية، والاعتماد على التمويل الوطني الجمعي لتحقيق الديمومة والاستمرار ومواجهة متطلبات المستقبل.