سوق العمل.. التأهيل والمهارات

في لقائه مع طلبة الجامعة الأردنية قال رئيس الوزراء الدكتور بشر الخصاونة إن الجهازالحكومي لا يستطيع ان يوظف أكثر من 12 إلى 15 ألف شخص سنوياً في الوقت الذي يدخل سوق العمل 120 إلى 150 ألف شخص سنوياً ينتظر كل منهم  فرصة العمل المناسبة.

فاذا تذكرنا أن عدد الموظفين الحكوميين يتجاوز 220 ألف موظف في مختلف القطاعات وهو رقم كبير بمقاييس الدول الناهضة والمتقدمة، وأن معدل النمو الاقتصادي ما يزال يتأرجح حول 2.5 % لعدة سنوات، وان المعدل الطبيعي لنمو السكان 2.8 % يتبين ان القطاع الخاص في وضعه الحالي لا يستطيع أن يستوعب أكثر من 30 ألف فرصة عمل سنويا إذا استمرت معدلات النمو الاقتصادي على حالها. وفي نفس الوقت فإن العمالة الوافدة والتي تتجاوز 1.3 مليون فرد تشغل جزءا لا يستهان به من فضاء العمل الأمر الذي يستوجب المواجهة ويجب أن يدفع باتجهات رئيسية أربعة. الأول: العمل الجاد المبرمج نوعيا وزمنيا على زيادة وتيرة النمو الاقتصادي لتتجاوز في معدلها 5 %. وبذا فقط يمكن تخفيض البطالة على مدى عدة سنوات لتقترب من المعدلات العالمية والثاني: إعادة النظر بشكل جذري في  المسار المهني الذي يقابل المسار الأكاديمي. الثالث: التطوير  التكنولوجي والبيئي لكثير من الوظائف والمهام التي تتولاها العمالة الوافدة من خلال فرق عمل متخصصة، حتى يصبح إحلال العمالة الوطنية طبيعيا وتلقائيا الرابع: النظر من طرف الإدارة الرسمية في عائدات اقتصاديات الإنتاج مقابل الازدحام التوظيفي فقط بهدف التشغيل والانتقال الرسمي إلى الاستثمار في المشاريع الجديدة بدلا من تضخيم الجهاز الرسمي للدولة.

ورغم جهود وزارة التربية والتعليم ومؤسسة التدريب المهني في الترويج للتعليم المهني فإن الإقبال على التعليم المهني برغبة  واقتناع ما يزال متواضعاً، ويتراوح بين 12 % إلى 15 % من الطلبة في حين يتجه 85 % أو أكثر من الطلبة إلى المسار الأكاديمي. هذا في حين أن 50 % أو أكثر من الطلبة في الدول الصناعية يتجهون للتعليم المهني. يعود هذا الخلل في التوازن إلى سببين رئيسيين الأول عدم تطوير التعليم المهني وتحديثه بشكل جذري ليصبح تعليما تكنولوجيا متقدما، ليخرج من الاطار التقليدي إلى الفضاء الذي خلقته الثورة الصناعية الرابعة وثورة الذكاء الاصطناعي الثاني: ان عدم تحّول الاقتصاد الوطني بمختلف قطاعاته إلى اقتصاد صناعي يجعل من «العمل المهني» في عصر الرقمية والاتصالات، فضاء غير جاذب للطلبة.

في عين الوقت الذي تتفاقم فيه البطالة محليا، وتضغط المساعدات الدولية باتجاه اللاجئين، فإن الكثير من القطاعات الإنتاجية ما تزال تبحث عن عمالة وافدة بسبب عدم توفر المهارات المطلوبة. فإذا أضفنا إلى ذلك التحولات الوظيفية  والمهاراتية التي تحملها ثورة الذكاء الاصطناعي فإن مسألة المهارات تكتسب أهمية إضافية. لقد أكد تقرير «المعرفة قوة» الذي رصده منتدى الإستراتيجيات الأردني، أن التحدي الكبير الذي يواجهه الاقتصاد الأردني يتمثل في معدل البطالة المرتفع والذي وصل إلى 22.8 % لعام 2022 وان المتعطلين عن العمل من حملة الشهادات الجامعية يبلغ 42.2 % ، كما أن مدة المتعطل عن العمل تتراوح من سنة إلى سنتين لثلث العاطلين عن العمل في حين أن 20 % من العاطلين يستمر تعطلهم مدة عامين أو أكثر.
ورغم كل ذلك فإن 60 % من الشركات على مستوى العالم كما يقول التقريرغير قادرة على الحصول على المهارات المطلوبة لأعمالها بسبب التحولات المتسارعة في نوعيات المهارات المطلوبة. وان عددا من الدول العربية والعالمية قد سبقت الأردن على سلم التكنولوجيا والابتكار فأصبح في المرتبة 80 عالميا و10 عربياً.
يعود هذا الوضع غير المتوازن بين خريجي الجامعات والبطالة للجامعيين وغيرهم ونقص المهارات المطلوبة يعود إلى أسباب رئيسية ثلاثة الأول: بطء التحولات التعليمية في المدارس والجامعات واستمرار التمسك بالنمط القديم القائم على التعليم  النظري وحشد المعلومات على طريق الوصول إلى الشهادات الثاني: استمرار ربط الأجور والرواتب وخاصة في الجهاز والمؤسسات الوطنية الرسمية بالشهادات، والترقية الوظيفية بالأقدمية، وليس بالإنجاز وبالكفاءة والمهارة المطلوبة للوظيفة. مما يدفع الطلبة للبحث عن الشهادة بكل الطرق الثالث: غياب أو ضعف التشبيك الفعال والشراكة المتكافئة مع المؤسسات والشركات الإنتاجية بتخصصاتها المتنوعة لتطوير التأهيل المهني إلى تأهيل تكنولوجي في جميع تفاصيله وتخصصاته بالاتجاه الذي يمكن المتعلم من المهارات المطلوبة.
ان سوق العمل أصبح يتغير بسرعة كبيرة في شتى القطاعات الفرعية وفي مختلف التفاصيل ومع دخول الذكاء الاصطناعي فإن الكثير من الوظائف في وضعها الحالي سوف تتراجع أو تختفي لتحل محلها وظائف جديدة ذات مهارات مختلفة وخلفيات علمية وتعليمية مختلفة. وهذا يستدعي من الحكومة العمل على التأسيس المنظم لأن تكون هناك دراسات مشتركة مع القطاع الخاص لمعرفة التوجهات المهاراتية الجديدة، ليس بشكل عام، وانما في كل حقل من حقول الإنتاج سواء في الصناعات الدوائية أو الكيمائية أو الهندسية أو الجلدية أو النسيجية أو اليدوية. وينبغي أن تكون مراكز التأهيل مصممة لكل حقل إنتاجي بذاته تتغير مع التغيرات المنبثقة عنه أو فيه. فالتأهيل المهني مثلا للصناعات الغذائية وتحولاتها تختلف عن التأهيل في الصناعات الكيماوية وتحولاتها وعن الصناعات الاستخراجية أو الزراعية أو الإلكترونية وغير ذلك الكثير. 
وهنا يبرز دور المعلم والاستاذ في المدرسة والمعهد والجامعة. فما لم يكن المعلم في المدرسة والاستاذ في المعهد والجامعة على اهتمام حقيقي بالمهارات وقيمتها الفعلية وأهميتها في مستقبل الطلبة فإن الانتقال من الشهادات الى المهارات يستمر بطيئاً بل وضعيفاً . المسألة الثانية في هذا المجال ضرورة تأهيل المعلمين والاساتذة والمدربين لمفاهيم المهارات  والتكنولوجيا والابداع ومتطلباتها. وإعطاء الأهمية في التعليم إلى الجوانب التطبيقية (دون اهمال الجانب النظري بطبيعة الحال) وتشجيع المتعلمين للدخول في مهارات صنع الاشياء والتي تعتبر اساساً لاكتساب المهارات بشكل عام المسألة الثالثة هي تدريس «الريادية وادارة المشاريع» وتمكين الطلبة من المهارات الريادية وليس الاكتفاء بالثقافة المالية في المدرسة.
هنا فقط يمكن أن يقع التحول في توجهات الطلبة من الاكاديمي  إلى المهني التكنولوجي، لانه سيجد في التعليم المهني ما يحقق تطلعاته للتفوق.