تمكين التعليم.. ومواجهة الذكاء الاصطناعي

كما أن العولمة وثورة الاتصالات والتكنولوجيا الرقمية، غزت العالم بسرعة كاسحة، فإن الذكاء الاصطناعي في طريقه إلى غزو العالم، خاصة وان الدول الصناعية المتقدمة في حالة تنافس شديد للإفادة من الذكاء الاصطناعي في إنتاج السلع والخدمات والنشاطات العسكرية والاستخباراتية. ومن المتوقع أن يتغير شكل المنتجات المركبة والماكنات مثل السيارات والقطارات وتتغير الاستشارات القانونية والطبية خلال السنوات العشر القادمة تغيراً جذرياً ليحتل الذكاء الصناعي مكانة متقدمة فيها.

والذكاء الاصطناعي ببساطة يمثل تكنولوجيا تقوم على تطبيقات حاسوبية تساعد الأنظمة والأجهزة والمعدات والإنسان على تأدية مهام معقدة، تحتاج إلى درجة من الذكاء يقدمها عادة العقل البشري”. وبالتالي فإن تطبيقات الذكاء الاصطناعي سوف تشمل مختلف النشاطات البشرية بما في ذلك الأعمال والوظائف، بل وحتى الخيال والفنون واتخاذ القرار، وتطبيقات أخرى تصل إلى المعدات والأجهزة وعالم النبات والحيوان والبيئة. وسوف يؤدي ذلك بالضرورة الى إلغاء الكثير من الوظائف المكتبية والروتينية التقليدية. ويتوقع الخبراء ان ترتفع معددلات البطالة اذا لم يتم توليد فرص عمل جديدة، كما يتوقعون إلغاء 66 % من وظائف الياقات البيضاء خلال السنوات العشر القادمة. ومثل هذه الحالة والتي يمكن تسميتها بالثورة الصناعية الخامسة او ثورة الذكاء الاصطناعي تحمل معها الكثير من التحديات، بل والأخطار. وهذا ما دعا الأمين العام للأمم المتحدة انتونيو غوتيرش ليطالب قبل أيام بإنشاء “منظمة دولية للذكاء الاصطناعي” تنبثق عن الأمم المتحدة، لوضع ضوابط وأعراف واتفاقيات دولية في هذا المجال. فهناك إمكانية إساءة الاستعمال، والفوضى في وضع التطبيقات، وأخطر من ذلك تزييف المعلومات والصور والعلاقات، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو التعليم أو الثقافة أو العلاقات المجتمعية. هذا إضافة إلى إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي في نشاطات عسكرية معلنة أو سرية أو إرهابية. ولأن الذكاء الاصطناعي عماده الأساس معالجة المعلومات والبيانات والاستنتاج على ضوئها، فهو معرض للخلل باشكال مختلفة الى درجة الهلوسة، فتصبح المنظومة بكاملها تتصرف كشخص فقد عقله. كل ذلك يتطلب وضع بروتوكولات خاصة بالاستعمال بعد تصنيف الاستعمالات وتبويبها ووضع قواعد ومدونات سلوك سواء للأفراد أو المؤسسات أو الدول، لمنع الاستخدمات الخفية للذكاء الاصطناعي، وخاصة في القطاعات الحرجة كالتعليم والبحث العلمي والطب والأمن والنقل، بحيث تبين تلك المدونات المسؤوليات الأدبية  والاخلاقية والانسانية تجاه كل استعمال، ومن يتحمل  لمسؤولية عند وقوع الخلل او التجاوز.
فإذا عدنا الى التعليم، وهو واحد من أهم وأخطر المحركات في صنع المستقبل لكل مجتمع، وأكثرها عرضة للتأثر بموجة الذكاء الاصطناعي سلبا أو إيجابا. وهنا علينا أن نتذكر أن التعليم ليس مجرد تجميع وحفظ معلومات، أو عقد الامتحانات واجتيازها، أو إعداد التقارير والرسائل الجامعية، وإنما التعليم بالدرجة الأولى يمثل الفرصة للعمل المبرمج لبناء شخصية الطالب وصقل تفاصيلها، واكتشاف مواطن الإبداع والتميز فيها، من خلال الإثراء العلمي والثقافي والفكري، وتمكين الطالب من مهارات التعلم والمهارات الحياتية والرقمية، والمهارات التخصصية. وذلك حتى يصبح الطالب قادراً، ومن منظور وطني وإنساني، على المساهمة والدفع باتجاه التغيير الاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي، في إطار من العقل المنفتح، القادر على التحليل والتركيب، وحل المشكلات وإبداع الجديد.
وهذا يفرض ضرورة وضع كوابح زمنية وموضوعية وعمرية على ادخال الذكاء الاصطناعي في التعليم. وهنا تختلف المجتمعات اختلافات كبيرة في هذا الشأن. فالمجتمعات الصناعية المتقدمة أصبحت الكثير من المهارات جزءا من الحياة اليومية للمجتمع، كالمهارات اللغوية والرقمية، ومهارات صنع الأشياء. والبعض منها تميز بمهارات الإبداع والاختراع مثل كوريا والصين. هذا، في حين أن هذه المهارات تفتقد الكثير منها معظم المجتمعات النامية، ونحن منها، ويجب تعويضها واكتسابها خلال المراحل التعليمية المختلفة. ومن هنا فإن التحدي أمام أي نظام تعليمي، يتمثل في بناء قدرات الطالب التفكيرية والابداعية في ظل انتشار الذكاء الاصطناعي الذي يمكن أن يوفر الحلول والإجابات للطالب، الأمر الذي سيصرفه عن الجد والاجتهاد من أجل التعلم والتمكن الذهي والنفسي من مهارات العصر والمستقبل.
كل ذلك يتطلب رؤية وطنية ومؤسسية في مواجهة موجة الذكاء الاصطناعي قوامها التمهل والتدرج في إدخال الذكاء الاصطناعي إلى التعليم، وفي نفس الوقت الإسراع في تطوير وتحديث التعليم الأساسي والمهني والتكنولوجي. من جانب ثانٍ، ولتعزيز الجانب الإنساني في شخصية الطالب، فإن المطلوب التوسع في النشاطات اللامنهجية كالفنون والرياضة وخدمة المجتمع والاستشكافات والثقافة. اضافة الى تمكين الطلبة من مهارات الريادية والإبداع والبحث العلمي ومهارات صنع الأشياء. ومن جانب ثالث فإن تأهيل المعلم في المدرسة، والأستاذ في المعهد والجامعة للتعامل مع الذكاء الاصطناعي يصبح مسألة حاسمة، سواء من حيث الحيثيات او التكنولوجيا، أو توظيف الذكاء الاصطناعي لتحفيز وتعميق إمكانات الطالب وقدرته على استعمال الذكاء الاصطناعي في حقول متخصصة. استعماله عن إدراك ووعي وليس انقيادا وانسياقا. وفي خلاف ذلك فإن التعليم سيعجز عن بناء شخصية الطالب في بعدها الوطني والانساني، وستتراجع علاقة الطالب بالمجتمع، وسوف تتشوه السلوكيات الطلابية، وسيقع التعليم ضحية للذكاء الصناعي في تزييف الصورة عن إمكانات الطالب الفعلية. وفي النهاية إن الذكاء الاصطناعي موجة تكنولوجية معقدة تستلزم أولا: أن يتم وفي وقت مبكر إنشاء مؤسسة وطنية للذكاء الاصطناعي، تتولى وضع البروتوكولات والضوابط العامة للاستعمال. ثانياً: تكليف فريق متخصص للنظر في الوظائف التي ستختفي خلال السنوات العشر القادمة والوظائف الجديدة التي ستظهر. ثالثاً: تتولى كل مؤسسة، ابتداء من الوزارة وحتى المدرسة، مروراً بالشركات والمؤسسات، وضع مدونة سلوك للتعامل مع الذكاء الاصطناعي بشكل يضمن الفائدة ويمنع الأضرار. رابعاً: تتولى الجامعات والمعاهد وضع الضوابط اللازمة لتحقيق أصالة البحث العلمي والتأليف وكتابة التقارير والرسائل. خامساً: تقوم الدولة بتشجيع استخدام الذكاء الاصطناعي لحل المشكلات المعقدة سواء في الزراعة أو الصناعة أو السياحة أو غيرها.
إن الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يسارع في تغيير المستقبل، وعلى الدولة والمؤسسة والمواطن أن يكون كل منها مستعدا للمساهمة والمواجهة بمرونة وقيمة مضافة، وليس مجرد الانصياع والاستهلاك.