الوطن و البقعة.. والفكر والإرهاب

الأولى، ننحني اجلالاً لشهداء الوطن من موظفي دائرة المخابرات العامة الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل اردننا الذي نحب، ودفاعاً عن كل مواطن في هذا البلد الصامد، الموحد، العصي على دسائس الغدر والوقيعة .و الثانية ،نؤكد اعتزازنا بأجهزتنا الأمنية والعسكرية، التي تعمل بصمت و بمهنية عالية ووطنية متميزة، وتقدم الشهيد تلو الشهيد، حتى يعيش المواطن الأردني في أمن وأمان،و قد افتقدته المنطقة المحيطة بنا، حيث راح يأكلها لهيب التعصب والانقسام، والتسلط والتطرف والإرهاب . والثالثة،ً كلنا ثقة وايمان بأن كل حادث ارهابي تدبره عقول مريضة مأجورة، وتنفذه أيادي جاهلة مأزومة ،لا يزيد الأردنيين الا قوة وتماسكاً، والتفافاً حول وطنهم ومجتمعهم ودولتهم و قيادتهم ،حتى لو كان الحادث يهدف الى ايقاع الفتنة والانقسام كما هو حادث البقعة قبل أيام . تم اختيار الموقع في «البقعة» والمجرم من «أصول فلسطينية» والهدف مكتب «المخابرات» من أجل إثارة النعرات الاقليمية المريضة، التي تقسم الشعب الواحد، والتي تجاوزها الشعب الاردني منذ سنين. ويهدف الجناة الى ارتداد الشعب على نفسه كما وقع في بلدان أخرى ليتهم جزء من مواطنيه الجزء الآخر بما هو بعيد عن الوطنية،تماماكما فعلوا بين السنة والشيعة ،والعرب والكرد، و المسلمين و المسيحيين في العراق و سوريا ومصر و غيرها . ولكن خاب أمل الجناة ومن يحركهم كالدمى ،لأن الأردنيين صغاراً وكباراً تنبهوا منذ اللحظة الأولى للهدف السياسي الخبيث وراء الحادث ،فازدادوا ثقة بوحدتهم وتماسكهم . وهذه نقطة بالغة الأهمية ،وأعنى الوحدة الوطنية.حيث ينبغي على المؤسسات التربوية والثقافية والشبابية والاعلامية و الأدباء والمثقفين والفنانين والمفكرين مواصلة العمل عليها لزيادتها قوة وصلابة من خلال البرامج والاعمال و الإنتاجات التي تجعلها مستقرة راسخة في أعماق الضمير الوطني. إنها عمود الوطن ونقظة ارتكازه .لقد استطاع المتطرفون و الإرهابيون في بلدان أخرى، أن يكسروا الوحدة الوطنية هناك بأسم الدين أو المذهب أو القومية. فالجناة ومن وراءهم يريدون أن يروا في الأردن الانقسامات الطائفية والجهوية والمذهبية التي اجتاحت الأقطار العربية المجاورة حتى يتمكنوا من نشر ارهابهم وفسادهم في كل مكان.
والنقطة الثانية ،هي أهمية المشاركة الشعبية في مواجهة التطرف و الأرهاب والتصدي لهما، من خلال دعم الأجهزة الأمنية كافة، ومساندتها، والثقة بها ،والتعاون معها. ذلك أن نجاح التطرف والارهاب في الأقطار المجاورة اعتمد بشكل أساسي على تغييب الجماهير،وانعدام الثقة والقطيعة بين الأمن والجيش من جهة، وبين مكونات المجتمع من جهة ثانية ،لأنه كثيرا ما استخدم الأمن والجيش في تلك البلدان ضد المواطنين أنفسهم، وهو ما لم يقع في الأردن أبداً، و لن يقع مهما توغل الإرهابيون في التآمر والغدر.
أما النقطة الثالثة فهي الشباب والفكر المتطرف. وهذه مسألة رغم كثرة الحديث عنها إلا انها لم تأخذ حقها من الاهتمام العملي التطبيقي لدى إدارات الدولة ،ولدى الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني و الجامعات. لا يكفي أبداً الحديث والكلام والوصف عن الفكر المتطرف، ولا يكفي أبداً القول أنه بعيد عن الدين، وليس من الاسلام.. و أنه.. و أنه . فذللك يبقى مجرد حديث في ندوة أو محاضرة أو مقال في صحيفة أو كتاب. ان السؤال الاكثر أهمية هو: ما هي الخطط العملية التنفيذية التي اتخذتها المؤسسات في التربية والثقافة والإعلام والأوقاف و الجامعات والشباب للمواجهة العملية للفكر المتطرف والوصول الى الشباب بفكر وطني وانساني خالص يقوم على الايمان بالوطن والمواطنة ويرتكز الى القانون والدستور ويستمد قوته وحيويته من العلم والعقل والأخلاق .
كيف يتم اصطياد الشباب والتغرير بهم للتحول نحوالتطرف و الإرهاب؟ ما هي البرامج التي وضعتها كل مؤسسة من هذه الوؤسسات ؟وما هي المواد العلمية والثقافية والفكرية والفنية و الإجتماعية والإعلامية التي تم إعدادها؟ ما هي البرامج التي تم تنزيلها على شبكات التواصل الاجتماعي لتفتيت او تخريب برامج التطرف والارهاب؟ وما هو دور الجامعات التي تضم 4% من السكان و يتخرج منها ما يزيد عن 72 ألف شاب و شابة في كل عام؟
واذا اردنا ان نكون عمليين مخلصين لوطننا ومستقبلنا علينا دون تأجيل و تسويف و تردد، التصدي بقوة و علم لمشكلة البطالة و الفقر ، وفي نفس الوقت، القيام بحزمة من الاجراءات ربما في الاطار التالي. أولاً: وضع سلسلة من النشرات و البرامج المسموعة و المرئية و الكتب الإرشادية و الدليلية للمعلمين في المدارس والاساتذة في المعاهد والجامعات والإعلاميين و خطباء المساجد و أولياء الأمور حول كيفية التعامل مع التطرف و الإنحراف فكر، مقابل فكر، وما هي متطلبات الاقناع والتأثير على الشباب و الأبناء و الأصدقاء. ثانياً: لإنه يتم إغراء الشباب بالفكر المتطرف من خلال المداخل والمصطلحات الدينية مثل «الجهاد» و»القتال» و»سبيل الله» و»الحور العين» و»الكفار» و»المؤمنون»و «حكم الله» و «الشريعة» وغير ذلك الكثير، فالمطلوب من رجال الدين المستنيرين والمفكرين و دار الإفتاء وضع الاجابات العصرية التي يتم اعدادها للشخص العادي وللوالدين في الاسرة، وللمعلم في المدرسة و المعهد ،بحيث تربط هذه المصطلحات بالوطن والوطنية والانسانية والقانون ومؤسسات الدولة والأعداء الذين تواجههم القوات المسلحة والأجهزة الامنية. كل ذلك من خلال فكر معمق مقنع للشباب ودافع لهم لرفض التأويلات المتطرفة بثقة وقوة. ثالثا تعميم هذه المفاهيم في المدارس والكتب المدرسية ووسائط الاعلام والثقافة، و التوسع المبرمج في الدورات المدرسية و الجامعية و الشبابية. خامساً: تكثيف البرامج والنشاطات الثقافية والفنية والمجتمعية لدى الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني والنوادي الشبابية والمراكز الثقافية بدعم من الحكومة وتزويد المكتبات على مختلف مستوياتها بالنشرات والمقالات والكتب التنويرية المتعددة.
كان الملك ومنذ اشهر قد اشار الى «الحرب» و ليس «المعركة» ضد الارهاب والتطرف، وانها على ثلاثة محاور: العسكري الأمني، والاقتصادي الاجتماعي، والفكري الثقافي التربوي. ولا بد من الاستثمار الحقيقي بماتتطلبه هذه الحرب.إذا أخذنا متوسط الحالة العالمية،فإن الإقتصاد الوطني يتكلف سنويا ما يزيد عن 70 مليون دينار بسبب وجود الإرهاب بشكل عام، فحادثة ارهابية واحدة تكلف الاقتصاد الوطني ،بالإضافة إلى الضحايا الأبرياء ،عشرات الملايين من الدنانير، بتأثيرها على السياحة وعلى الانتاج و النقل و الاجراءات الأمنية. وهذا يعني انه دون استتثمار مالي و بشري، حقيقي وجاد في المحور الفكري الثقافي التربوي، فإن دحر التطرف والارهاب من جذوره لن يتحقق، خاصة وان الجماعات المتطرفة و الارهابية لديها الاموال المجلوبة، ولديها الافكار السلفية الجاهزة، و الاسلحة الناعمة والخشنة على حد سواء.
لابد من انشاء وحدة أو دائرة «التثقيف والتنوير» في وزارة الشباب أو وزارة الثقافة، ولا بد لكل وزارة و حزب و منظمة مجتمع مدني و جامعة ان تستعين بالمفكرين و المثقفين و الخبراء لتحقيق برامجها، و لرئيس الوزراء أن يكون لديه مستشاره الخاص في هذا الشأن ،على غرار الكثير من الرؤساء في العالم .و لا بد من تخصيص الأموال الكافية،و تنفيذ البرامج العملية من أجل دحر الارهاب والتطرف الذي اخذ يؤثر سلبيا على مستقبل المنطقة بأسرها. فالحرب طويلة، و كلفتها باهظة، إذا استمر التهاون و التهوين، و المواطنون متشوقون لأن يعملوا من أجل وطنهم، فلنفسح لهم المجال بعلم و عقل و نظام و مشاركة.