المشروع الغائب…. والحلقة المفرغة

من يقرأ السجل الأدائي للعديد من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية مثل: معدل النمو الاقتصادي ، نصيب الفرد من الناتج المحلي ، الإنفاق على التعليم ، دليل الديمقراطية ، دليل سيادة القانون ، البطالة ، الفقر ، تنمية المحافظات ، دور الأحزاب السياسية ، الحكومة البرلمانية ، نصيب الفرد من الطاقة …. الخ  من يقرأ السجل على مدى 10 أو 15 سنة يلاحظ أن التقدم الذي تحقق لدينا في هذه المؤشرات كان محدوداً للغاية ،إن لم يكن قد تراجع في عدد كبير منها . الأمر الذي يضع المواطن في مشقة معيشية متزايدة و إحباط متصاعد، رغم ثقته بوطنه ومحبته لدولته واطمئنانه لقيادته. وكذلك يضع البلاد في حالة مراوحة تاريخية خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف . هذا في عين الوقت الذي يتغير العالم فيه بسرعة كبيرة نحو التقدم ، وتتغير المنطقة بشكل لم يسبق له مثيل و يستدعي قوة و منعة الدولة.

إن الأسباب وراء هذه الحالة المزمنة عديدة، ولعل أبرزها يتمثل في :أولاً : غياب مشروع نهوض حقيقي للدولة تتبناه الإدارات الرسمية بكل جدية واخلاص،و تلتزم بتنفيذه،و تتشارك فيه مع القطاعات و المنظمات و الأحزاب، ويتفاعل معه الموظفون لتحقيق الانجازات المطلوبة، بدلا من انتظار الأحداث .هذاعلى الرغم من الإستراتيجيات و المشاريع العديدة التي تم وضعها في الخمسة عشر سنة الماضية   .ثانياً : “العقلية التبريرية” التي تسيطر على جهاز الإدارة .حيث يتم تبرير كل شئ بعوامل وظروف خارجية، وضعف الامكانات وعدم استقرار المنطقة ، هذا على الرغم من أن المنطقة على هذه الحال منذ أكثر من 60 عاماً و ليس من المتوقع أن تهدأ و تستقر قبل عقدين من اليوم .ومن المفترض أن يكون ما يجري في المنطقة دافعاً قوياً لنا لبناء امكاناتنا، وزيادة الاعتماد على انفسنا ،وتحسين مؤشرات الأداء لدينا . ثالثاً : فجوة الثقة الكبيرة بين المجتمع والإدارة الحكومية. بحث يسود  الشعور لدى جزء كبير من المواطنين أن الإدارات غير عابئة بمعاناة المواطن،و أن كل طرف فيها مشغول بتعظيم مكاسبه و منافعه و مكافآته و تثبيت المقربين .  وبدلا من الدخول في حلول إقتصادية حقيقية تعمد الإدارة إلى زيادة الأعباء على المواطن وفرض الضرائب بطريقة أو بأخرى، دون مساءلة أو شفافية  أو نزاهة ، أو إرادة جدية كافية ( كما يراها المواطن) للتغيير، والتحول نحو الديمقراطية ومشاركة المجتمع وتطوير الأحزاب وتطوير القطاعات الاقتصادية . رابعاً :عدم وضع حلول حاسمة للكثير من المسائل ابتداء من انخفاض أسعار المنتجات الزراعية وانتهاء بالتغيرات المناخية .وبالتالي تكرار المسائل سنة بعد سنة وفصلاً بعد فصل والانشغال الأكبر في معظم الأحيان بتسيير الأمور الروتينية والمتكررة من سنة إلى أخرى .

وهكذا تبدو الأمور بالنسبة للمواطن كمن يركض في غرفة مغلقة يصيبه الانهاك ولكن دون الوصول إلى أي مكان . والمطلوب كسر هذه الحلقة المفرغة والخروج من هذه الأزمة ،ولو بالتركيز على موضوع واحد.

ويمكن أن يكون “جذب الاستثمار المباشر للمشاريع الإنتاجية الجديدة هو الموضوع المطلوب التركيز عليه”، بشكل ينقله من “إسطوانة ندرس ونفكر وندعو ونتطلع…” إلى واقع عملي على الأرض، أسوة بالدول التي نجحت في هذا المضمار. وهنا لا بد من الإشارة إلى ما يجذب المستثمر لأي بلد من منظور المستثمر و ليس كما نفترض نحن. .أولا : أرقام الأداء المالي والاقتصادي والقانوني والسياسي كما هي في الأدبيات الدولية ،و مدى الإيجابية في هذه الأرقام ، و هل هي في تقدم أو تراجع، و كيف تقارن مع دول أخرى مرشحة للإستثمار. ثانيا : مستوى الأجور للأيدي العاملة ،وتوفر العمالة الماهرة فعلا اللازمة للمشاريع المستهدفة، و مدى إنضباطية العامل و التزامه بأخلاق المهنة. ثالثاً : حجم الاقتصاد و آفاقه المستقبلية، وفرص الحركة فيه ومعدلات الصرف وأسعار الفائدة و مدى استقرار التشريعات، و سهولة الإستيراد و التصديرو الأسواق المحتملة. ورابعاً : سهولة بداية المشاريع وانشائها وتشغيلها بعيدا عن التدخلات و الواسطات و الشراكات الإجبارية والأتاوات و التعقيدات الإجرائية . وخامساً : مدى الإلتزام بحكم القانون، و ناجزية القضاء و نزاهته، و الإلتزام بحقوق الملكية الفكرية والتنافسية. وسادساً : الاستمرار والانفتاح و المرونة، وتوفر البنية التحتية الجيدة و العالية الكفاءة و كلفة الأساسيات من طاقة و مياه و نقل و اراضي، و انعكاس ذلك  كله على كلفة الإستثمار.و سابعا : الأمن ،بابعاده المختلفة و استقراره و مدى تغلغله في البنيان المؤسسي و المجتمعي.

هل يمكن للحكومة أن تركز جهودها لأربعة أعوام قادمة على جذب الاستثمار الإنتاجي المباشر،؟ و تنفذ برامج جادة لتأهيل الموظفين ليصبحوا جزء من آلة التعاون والتفاعل و الإبداع ؟ و تنخرط في شراكة حقيقية مع القطاع الخاص ،متجاوزة ابجديات العمل كالتمويل التاجيري و غيره، إلى المشاريع الإنتاجية الجديدة في المحافظات،؟ و تلتزم بالتعاون مع الشركات الكبرى و الجامعات و مراكز الأبحاث لزيادة القيمة المضافة للمنتجات،؟ و تشرع بالشراكة مع القطاعات الإنتاجية لإنشاء مراكز تأهيل تكنولوجي متقدم في شتى التخصصات التي يطلبها السوق مستفيدة من تجارب الدول الأخرى في هذا المجال،؟

وبطبيعة الحال فإن النجاح في جذب الاستثمار في المحاور التي أشرنا إليها سينعكس ايجابيا على الاقتصاد وعلى فرص العمل وعلى التعليم ،بل على كافة الجوانب الاجتماعية والاقتصادية للدولة ،و سيكون فرصة لدخول المستقبل بنجاح من خلال التركيز على مسار محدد.