المحطة النووية… بين الشفافية والمسؤولية

إن المتابع لما يجري في أقطار الوطن العربي، يدرك أن الحالة العربية ما كانت لتصل الى ما وصلت اليه من التردي والتراجع، لو أن حكومات الأقطار العربية لم تكن لتضع نفسها فوق شعوبها ،وتتصرف دون شفافية، وتأخذ من القرارات ما شاءت، سواء كان ذلك يتفق مع الدستور أو يعارضه، وسواء كان ذلك فيه مصلحة وطنية حقيقية على المدى المستقبلي ،أو فيه مصلحة لمجموعة من الناس، أو نتيجة للتسرع والتعجل وعدم الاستعداد للدراسة والتروي ،واستشارة أهل الخبرة والعلم والرأي والحكمة،و الإفادة من تجارب الأمم.
ينطبق ذلك على عشرات المسائل، ابتداء من الخصخة ومروراً باهمال المحافظات والمناطق النائية، أو تهميش الزراعة، وتهشيم الطبقة الوسطى ،أو الركض نحو مشاريع كبرى لا تأخذ حقها من الدراسة، كما هو الموضوع النووي لدينا .  القرار بإنشاء محطة طاقة نووية قرب قصير عمرة، بمفاعلين اثنين استطاعة كل منهما (1000) ميغا ليكونا عاملين عام 2021، والذي اتخذه مجلس الوزراء قبل أيام، لا يجوز أن يكون الفيصل النهائي في الموضوع . فمحطة الطاقة النووية هذه مرتبط بها اقتصاد وطن بكامله، و سلامة المواطنين بتجمعاتهم و قراهم، و ستتأثر بها  في حالة الخطأ  مقدرات البلاد على مدى ثلاثين أو أربعين سنة قادمة. والقرار الحكومي بسبب التسرع فيه يسير عكس التيار، فالإعداد للمحطات النووية يستغرق سنوات قد تصل 15 أو 20 أو   30 سنة كما هو الحال في مصر و تركيا و اسرائيل. و القراريختلف مع التوجهات الدولية لدى الكثير من الدول النووية، ابتداء من اليابان التي أوقفت جميع مفاعلاتها وعددها (17) مفاعلاً وانتهاء بألمانيا التي أخذت تتوسع في الطاقة المتجددة لكي تقفل مفاعلاتها النووية مع نهاية عام 2022.
ومن غير الأنصاف للشعب الأردني  أن يتم إقحامه بصورة متعجلة و بدون استعداد علمي و تكنولوجي كاف في مشروع ضخم ليس هو الأفضل ،وليس هو الأكثر اقتصادية، وليس هو الأشد إلحاحا ، يتم ذلك فقط لأن هيئة الطاقة النووية مصممة على المشروع . هل يعقل أن اقتصاداً صغيراً بحجم الإقتصاد الأردني يعاني من مديونية تجاوزت (22) مليار دولار يقدم على مشروع كلفته (10) الى (12) مليار دولار أي 30% من الناتج المحلي الإجمالي ؟ هل تقدم الولايات المتحدة على تنفيذ مشروع كلفته (5000) مليار دولار؟ هل تقدم بريطانيا أو روسيا أو أية دولة في العالم على مشاريع بهذه الحجوم النسبية الضخمة؟. هل هناك دولة نامية تشابه الأردن أقدمت على مشروع نووي؟.
هل يعقل أن يقدم بلد لا تتوفر لديه المياه الكافية واللازمة للتبريد على بناء محطة تتطلب ما يزيد عن (50) مليون متر مكعب من الماء سنوياً؟، فقط بالاعتماد على محطة تنقية المياه بالكاد يصل انتاجها الى (70) أو (100) مليون متر مكعب . هل يعقل أن لا  يحصل الشعب الأردني على إجابة مقنعة  للسؤال المصيري :»من أين ستأتي المياه لمواجهة أية كارثة نووية محتملة «؟ ولا يستطيع أحد أبدا أن يجزم بعدم وقوع حادثة ما على مدى (40) سنة  ؟
هل تقبل الحكومة مقولة هيئة الطاقة النووية  بأن التكنولوجيا الجديدة  في المحطة من بين 432 محطة في العالم، لا تحتاج إلى مياه في حالة الكارثة النووية ؟ هل وقعت فعلا كارثة نووية و أثبتت هذه التكنولوجيا عدم حاجتها للماء؟ أين و متى وفي أي بلد و من يضمن ذلك وكيف ؟ هل يمكن لبلد محدود الإمكانات أن تجازف  بمشروع ضخم هكذا بدلا من أن تبدأ بمحطة تجريبية صغيرة في منطقة غير مأهولة؟ هل من المقبول أن تكون   المحطة التي قررها مجلس الوزراء هي الأولى في العالم بهذه التكنولوجيا؟ والثانية في العالم لا تقام على نهر أو بحر  أو بحيرة و إنما في شبه صحراء؟ هل سيدخل الأردن  كتاب جينيس ؟
هل يعقل أن تبني الحكومة  قرارها  و تعقد الآمال على ثروة اليورانيوم ؟حيث لا أحد يعرف على وجه الدقة كم هي احتياطيات اليورانيوم القابلة للاستخراج المجدي في الأردن. حيث نقرأ في كل يوم رقماً مختلفا تراوح بين (26) و (220) ألف طن. وما هي كلفة التعدين؟ ومن أي ستأتي المياه اللازمة لتعدين اليورانيوم؟ ومن الذي سوف يستثمر في التعدين بعد هروب شركة اريفا ؟ علماً بأن اليورانيوم الذي يجري تعدينه إذا تم ذلك خلال سنوات ،لن يكون هو اليورانيوم الذي يستعمل في المحطة النوورية ،وإنما علينا شراء ذلك من الدول التي لديها التكنولوجيات والامكانات لتخصيب اليورانيوم .
و بالمقابل ،ألا ترى الحكومة إن هناك بدائل للطاقة النووية أدنى كلفة وأقل مخاطرة وأكثر ملائمة لحالة الأردن؟ ونعني بها الطاقة الشمسية ( لدى ألمانيا (17) ألف ميغاواط طاقة شمسية ) وطاقة الرياح والصخر الزيتي؟ ألا ترى الحكومة أن (5) أو (6) مليارات دولار، وهذا الجزء الإلزامي من التمويل ،إذا تم استثماره  في تصنيع الإقتصاد الأردني، وتنمية المحافظات، ستكون كافية لأن يتحول الأردن إلى دولة ناهضة كما في آسيا وأمريكا اللاتينية؟. ألا ترى إن استثمار مليار دولار سنوياً  في برامج التصنيع من شأنه أن يولد (30) أو (40) ألف فرصة عمل جديدة في كل عام وهو ما تحتاجه البلاد؟.
هل يعقل أن الحكومة قد تغاضت عن أن تشغيل مفاعل باستطاعة (1000) ميغاواط يتطلب استثمارات إضافية خارج المحطة في الشبكة الكهربائية والبنية التحتية قد تصل الى (2) مليار دولار ، وهي ليست لازمة عند استخدام المصادر الأخرى؟.
هل يغيب عن الحكومة أن الصخر الزيتي والطاقة الشمسية يمكن أن تعوضنا عن المحطة النووية دون اخطار ومغامرات، ودون استثمارات ضخمة تتحملها الخزينة وهي لا تستطيع ؟.وأن صناعة الصخر الزيتي مرشحة لأن تأخذ جزءا بارزا من سوق النفط على مستوى العالم؟ و أن تكنولوجيا الطاقة الشمسية تتطور بسرعة كبيرة لتصبح أكثر اقتصادية و أعلى كفاءة سنة بعد سنة؟
أليس من حق الشعب الأردني أن يعلم ما هي اعتراضات دول الجوار ( السعودية ومصر واسرائيل ) التي أدت الى نقل المحطة المنشودة من العقبة حيث البحر والمياه الى الأرزق حيث الصحراء والجفاف ؟ أليس من حق الأردنيين أن يعلموا موقف اسرائيل بالتفصيل وبشكل معلن حتى لا نقع في دائرة الابتزاز الإسرائيلي؟ . ماذا لو أعلنت اسرائيل بعد بضع سنوات أن هناك خطراً اشعاعياً عليها ؟ وطالبت بإغلاق المحطة أو التدخل في الإشراف على نظام الأمان فيها أو المشاركة في الطاقة الكهربائية ؟.
هل يعقل أن الحكومة لا تعطي أهمية لمسألة التوازن الاستراتيجي في المنطقة وغياب الاستقرار،مما يجعل التعامل الأمني والأخلائي مع المحطة النووية عبئاً دفاعياً واستراتيجياً وسياسياً ثقيلاً ؟
لنتدرب نعم، ولنكتسب الخبرة مؤكدا، ولنتعلم التكنولوجيا في المجال النووي، فالجميع يؤيد هذا الاتجاه. ولكن لا نتسرع في ادخال البلاد في مشروع لا مبرر له حيث يصبح التراجع عنه كارثة والاستمرار فيه كارثة اكبر.  و هذا يستدعي من الحكومة المراجعة، ومن مجلس النواب تأكيد قرار المجلس السادس عشر و تأجيل المشروع.  إن مستقبل  الأردن أهم بكثير من التسرع بمشاريع غير مستعد لها، ولا مجبر على الدخول فيها.