الاستثمار والبطالة.. ومتاهات العموميات

في المؤتمر الثامن لرجال الأعمال والمستثمرين الأردنيين في الخارج الذي انعقد في عمان يومي 19و20/8 الحالي، بتنظيم مشترك بين جمعية رجال الأعمال الأردنيين ووزارة الاستثمار، أكد نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية وزير الدولة لتحديث القطاع العام الأستاذ ناصر الشريدة ” أن الاستثمار هو الطريق الوحيد لمواجهة أزمة البطالة في الأردن” في حين أشارت وزيرة الاستثمار السيدة خلود السقاف “ان هناك 21 فرصة استثمارية مهمة بقيمة 1410 ملايين دينار” تتراوح بين 400 مليون نزولا إلى بضعة ملايين للمشروع الواحد. 

هذا بينما دعا نائب رئيس الوزراء ووزير البلديات الأستاذ توفيق كريشان المستثمرين من المغتربين للاستثمار واقامة المشاريع في المحافظات. اما رجال الأعمال فكان من توصياتهم “اقامة قرية للمستثمرين المغتربين”.

والحقيقة ان الحديث عن الاستثمار والبطالة لا يتوقف منذ سنوات. وقد مرت البنية الهيكلية لتنظيم الاستثمار في تقلبات كثيرة بين مؤسسة ووزارة الى ان استقرت اخيراً في وزارة الاستثمار. كما ان الحديث عن البطالة لم يتوقف منذ سنوات، وخاصة بعد عام 2010 نظراً للتسارع الكبير في معدلات البطالة على مستوى المملكة لتتجاوز 22 % بعد ان كانت 12.5 % في عام 2010. ومع هذا، فلا بد من الأعتراف بأن حجوم الاسستثمار السنوية وخاصة في مشاريع انتاجية أو خدمية جديدة، وليس بيع أو شراء ما هو موجود، استمرت  لتكون متواضعة ودون الطموح، وأقل من ان تحدث فرقا في حجم الاقتصاد الوطني أو معدلات نمو الإقتصاد، او تولد من فرص العمل ما يكفي ليغير من ارتفاع البطالة الى انخفاضها. ولم تنشأ شركات مساهمة عامة انتاجية أو خدمية كبيرة خلال السنوات العشرين الماضية تقريباً. كما ان بطالة الجامعيين رغم التوسع في التعليم العالي هي في تصاعد متواصل.

والسؤال لماذا؟ لعل أسرع وأسهل الإجابات :أن الأحداث والتقلبات في المنطقة والكورونا وعدم مواءمة مخرجات التعليم لسوق العمل هي السبب. ولكن تراجع النمو الاقتصادي وتصاعد البطالة انطلقا قبل ذلك بكثير. الأمر الذي يجعل الموضوع بحاجة إلى مراجعة عميقة بعيدا عن العموميات، وبعيدا عن انتظار الاستثمارات الخارجية والمنح والمساعدات.
ولعل الإشكال لدينا يتركز في جانبين رئيسيين الأول: ان الاقتراب الحالي للاستثمار يتمثل أساسا في البحث عن استثمارات كبيرة بعشرات ومئات الملايين من الدنانير كما لاحظنا من ارقام المشاريع المذكورة اعلاه باعتبار ان مثل هذه الاستثمارات هي التي يمكن ان تحدث فروقا في الاقتصاد وتخفيضات في البطالة. والثاني أنه يجري في معظم الأوقات التركيز والبحث عن المستثمر الاجنبي (مع الاحترام والتقدير) او المستثمر المغترب. بمعنى ان “نظرية الحجوم الكبيرة والقفزة الواسعة هي التي تسيطر على تفكير الادارة” والتي يرى الكثير من المسؤولين انها الطريق السريع والصحيح. ولكن تجارب الدول التي نجحت في تطوير اقتصاداتها وتصنيع الانتاج بمعدلات سنوية جيدة لا تقل عن 5 % مما ساعد على تخفيض البطالة، تلك التجارب كانت مختلفة وتقوم على “مبدأ التراكم التدريجي المتصاعد”، وليس انتظار القفزات ذات الحجوم الضخمة. وهذا يستدعي بالنسبة لنا ضرورة العمل باقتراب مختلف و ربما في الاطار التالي. اولاً: التركيزالجاد على الاستثمارات الوطنية باعتبارها اساس الاقتصاد الوطني والجاذب الفعال المشجع للاستثمارات الخارجية ثانياً: اعطاء الاهتمام 
والدعم  للمشاريع التصنيعية التكنولوجية الصغيرة والمتوسطة باعتبارها الأكثر توظيفاً للقوى العاملة، والمزوّد الضروري للمشاريع الكبيرة وتقع ضمن امكانات التمويل الوطنية المتاحة. ثالثاً:عدم وقوف الحكومة على الحياد ازاء المشاركة في المشاريع الجديدة حيث ينبغي أن تساهم فيها الحكومة مع القطاع الخاص والقطاع التعاوني وخاصة في المحافظات. إذ تمثل مساهمة الحكومة من خلال صناديقها وأدواتها الاستثمارية الرافعة الرئيسية للاستثمار في المحافظات من مستثمرين وطنيين وخارجيين. وهنا لا بد لمجالس المحافظات ان يكون لها دور فاعل ومحفز بالتعاون مع المستثمرين والجامعات المحلية كبيوت خبرة رابعاً:تحفيز الشركات الإنتاجية والخدمية الكبيرة لتكون قاطرة لصناعات أو مشاريع جديدة تساهم فيها الشركات تلك وصناديق الاستثمار الحكومية والمستثمر الوطني والبنوك المحلية. خامسا: العمل المبرمج المتواصل على تخفيض كلف الإنتاج في جميع القطاعات.
اما مواجهة البطالة فلا يمكن ان يتحقق فيها تقدم إلاّ من خلال مسارب رئيسية ثلاثة الأول: ان تلتزم جميع الجامعات والمعاهد بتدريس “الريادية وادارة المشاريع” كمادة الزامية لجميع التخصصات، بغض النظر انسانية كانت أو علمية. وبافتراض ان 10 % فقط من الخريجين سوف يعملون على انشاء مشاريعهم فهذا يعني 7 آلاف مشروع جديد سنويا، ربما ينجح منها 3 آلاف مشروع باحتمال كبير لـ 20 ألف فرصة عمل جديدة. الثاني: ان تعيد الجامعات والمعاهد بناء برامجها لتقترب  أكثر فأكثر نحو الاتجاه التطبيقي العملي، واعطاء وقت كاف لتدريس المهارات ابتداء من المهارات الحياتية ومهارات صنع الأشياء، وانتهاء بالمهارات التخصصية، ووضع مؤشرات رقمية لتوظيفية employability الخريجين لكل جامعة ومعهد. وبالتالي الخروج من مفهوم تخصص راكد وتخصص مشبع وغير ذلك من المصطلحات التي تسيطر على رؤية الوظيفة التقليدية الثالث: السير في برامج جادة ومعمقة لبناء وتطوير المهارات التكنولوجية للأيدي العاملة الوطنية حسب القطاعات الإنتاجية المختلفة وبالتشارك معها ليصبح التأهيل المهني تأهيلاً تكنولوجيا متخصصا ومتقدما، وبالتالي قادراً على المساهمة في تطوير القطاع الانتاجي ذاته.
ان واحداً من أهم الأسباب التي تبعد المستثمر عن المحافظات يتمثل في مرفق “النقل”. فالنقل في وضعه الحالي فردي غير منتظم عالي الكلفة. وما لم ترتبط المحافظات بنقل منتظم من خلال شبكة  سكة حديد وطنية (دون الانتظار العبثي والخطر لسكة حديد تنطلق من حيفا) فإن المستثمرين سيظلون مبتعدين عن المحافظات ومتركزين حول المدن الرئيسية.
واخيراً فإن دخول الحكومة من خلال مؤسساتها الاستثمارية بجدية كشريك في إقامة المشاريع، والاعتماد على التمويل والاستثمار الوطني، والتدرج التراكمي في إطار الاقتصاد الاجتماعي التعاوني، كل ذلك يمثل الطريق الصحيح نجو المستقبل.