أزمة البطالة ….. و مواجهة التحدي

تشير أرقام دائرة الإحصاءات العامة أن معدل البطالة في المملكة للربع الثالث من العام الحالي هو 13.8% وهي للذكور 11.1% مقابل 25.1% للإناث. كما يبين التقرير أن الجزء الأكبر من العاطلين عن العمل أي ما نسبته 61.7% هم من حملة الشهادة الثانوية العامة والشهادات الجامعية. أما معدلات البطالة في المحافظات فقد كان أعلاها في محافظة الكرك وبلغ 18.8% . هذا في الوقت الذي يبلغ فيه المعدل العالمي للبطالة 10%.
إن أرقام البطالة تتأرجح حول 13% منذ 25 عاماً. وهذا يعني أن طريقاً فعالاً لمواجهة هذه المشكلة لم يتم الوصول إليه على الرغم من أن أعداد العاطلين عن العمل هم في تزايد متواصل. إذ ارتفع عدد العاطلين عن العمل من 120 ألف عام 1990 إلى 228 ألف مواطن و مواطنة، أي ما يعادل الضعف تقريباً. وإذا استثنيا طلبة المدارس البالغين 27% من السكان، والذين ولا يفترض أنهم في سن العمل، فإن مستوى البطالة يصبح مصدراً للقلق من منظور إقتصادي و إجتماعي و أمني. و بالتالي ينبغي أن تكون  هناك محفزاتً على العمل لمواجهة هذا التحدي بطريقة مختلفة ، خاصة وأن الأوضاع المتدهورة للأقطار العربية المحيطة بالأردن تسببت في لجوء مئات الآلاف من اللاجئين الذين أصبحوا يزاحمون العمالة الأردنية في مجالات كثيرة .
حينما استقلت ماليزيا قبل أكثر من 50 عاما كان رقم البطالة الحقيقي في ماليزيا آنذاك، أي الذين لا يعملون وليس مجرد الباحثين عن العمل، 70%. و ربما يقابله لدينا رقم 35% إذا أخذنا بعين الإعتبار النساء الذين لا يعملن  و المتقاعدين في سن مبكر. و عندما تسلم مهاتير محمد رئاسة الوزراء في ماليزيا قبل أكثر من (35) عاما كانت معدلات البطالة هي التي صدمته، وغيرت من تفكيره، و أحدثت انقلابا في سياساته . كانت ماليزيا دولة أسيوية نامية لا يزيد متوسط دخل الفرد فيها عن 300 دولار عام 1960( مقارنة بالأردن آنذاك 350 دولار لكل فرد). ارتفع في ماليزيا  عام 1981 إلى 1892 دولار للفرد وفي الأردن 1893 دولار للفرد. ولم يجد مهاتير إجابة حول تحدي تخفيض حجم البطالة سوى إجابة واحدة : “ تصعيد الاستثمار في المشاريع الإنتاجية ودعوة المستثمرين الوطنيين والأجانب للاستثمار لا في العقار والأسهم، ولا لشراء الموجودات من أراضي وفنادق ومرافق وشركات، وإنما لإنشاء مشاريع إنتاجية جديدة في المواقع المختلفة من البلاد” .
و إنطلاقا من مواجهة البطالة و توفر الإرادة السياسية و الوطنية للخروج من الأزمة، راحت سلسلة الإصلاحات تأخذ مكانها وتتزايد حلقاتها و تدور بسرعة أكبر، عاما بعد عام .فقد تبين ل مهاتير محمد أنه لا يمكن أن يقبل المستثمرون على المخاطرة بأموالهم دون إدارة حكومية نزيهة و ايجابية  ومشجعة للاستثمار والعمل ، و دون قضاء مستقل و ناجز و نزيه. ليس على المستويات العليا فقط، وإنما، و هذا هو الأهم،على المستويات الوسطى و الدنيا أي مستوى الموظفين العاديين. فعملت  حكومة مهاتير محمد على إصلاح القضاء و تمكينه و تحصينه من جهة،و على الربط  بين نجاح الإقبال على الاستثمار وبين تحسين رواتب وأوضاع الموظفين من جهة أخرى. وتبين أن الموظفين بحاجة إلى توعية و تثقيف و تدريب، فأنشأت الحكومة  المراكز التدريبية و البرامج التثقيفية و التوعوية المتخصصة. واتضح أن إصلاح التعليم وتطويره و الإستثمار الكافي فيه وفي البحث العلمي و التطوير التكنولوجي، شرط جوهري لإنتاج قوى عاملة مؤهلة ومدربة لتدخل المشاريع الجديدة، و لتبدع الحلول المبتكرة للصناعات الناشئة . فأدخلت الحكومة إصلاحات جذرية على المدارس والمعاهد والجامعات و أسست المراكز البحثية الصناعية و الزراعية ، وربطت بين الجامعات و المعاهد و مراكز البحث من جهة، و أصحاب المشاريع  والمستثمرين من جهة أخرى . ثم تبين أن الحكومة لا تستطيع التعامل مع متطلبات المشاريع الجديدة والاستثمارات المتزايدة والأفكار الإبداعية، والوسائل الحديثة  والخدمات المتطورة، و قوى العمال الصاعدة  بمفردها، فأقرت الحكومة الماليزية يذلك  و قامت بإنشاء “ مجالس شراكة بين الحكومة والقطاع الخاص” اسماها مهاتير” الشراكة الذكية “. وكانت شراكة حقيقية، وليست صورية أو دعاوية، ساعدت جميع الأطراف على النجاح.
و رغم ثقة مهاتير بنفسه، فقد أدرك أنه دون الإستعانة بالعلماء و الخبراء و المفكرين القادرين على التفكير الواقعي والمستقبلي، فلن يتمكن من تحقيق الأهداف التي وضعها نصب عينيه و هي التحول إلى دولة صناعية يستطيع إقتصادها المتنامي أن يولد فرص العمل الجيدة ليس فقط للعمالة البسيطة ، و إنما للخريجين الجامعيين و العلماء الشبان و الباحثين والمخترعين الناشئين. وهكذا توالت فصول  الإصلاح و التحديث في كل زاوية و مرفق و قطاع لتعزز سيرورة النهوض والنمو الاقتصادي في ماليزيا سنة بعد سنة، وعقداً بعد عقد، حتى وصل دخل الفرد فيها عام 2014 حوالي (11) ألف دولار. مقابل (5.5) ألف دولار في الأردن. وهكذا من خلال قبول التحدي الوطني لمواجهة البطالة،ليس عن طريق المعونات وإنما عن طريق  استقطاب الإستثمار وتصنيع الإقتصاد الوطني،و ليس عن طريق انسحاب الحكومة من المواجهة و إنما من خلال الإنخراط والمشاركة المتكافئة بين الجميع،  تضاعف دخل الفرد الماليزي (37) مرة على مدى (55) عاماً. و اليوم انخفضت البطالة في ماليزيا إلى أقل من 3%، ووصلت مشاركة المرأة في القوى العاملة إلى 37.5%  من قوى العمل مقابل 15% في الأردن. وهكذا كان الأمر في كوريا والصين والهند وسنغافورة والبرتغال وايرلندا وغيرها حيث انطلقت كل دولة من قضية محورية كانت بمثابة البوابة الرئيسية للإصلاح و التغيير .
فإذا أضفنا إلى أخطار استمرار البطالة ،إمكانية اندفاع العاطلين نحو الإحباط و التطرف و الإنجرار نحو العنف و الإرهاب،من جهة، و زيادة العنف ضد المرأة من جهة ثانية، فإن السؤال الذي يبقى عالقاً وحائراُ ، لماذا لا نستفيد نحن من تجارب الأمم؟ إذ لا  يتوقع أحد أن تنخفض البطالة بمجرد توظيف عشرة آلاف أو عشرين ألف في مناسبات مختلفة، في حين أن حاجة الأردن سنوياً و في الظروف السائدة تتعدى (100) ألف فرصة عمل. ليس هناك  من طريق آخر لمواجهة البطالة غير الطريق الذي سلكته الدول الأخرى ونعني بذلك المشاريع الإنتاجية الجديدة، و الإنتقال إلى الإقتصاد الصناعي بالتعليم والبحث العلمي و بالصناعة و الزراعة والنقل والسياحة و كل قطاع . إن  فرص النجاح كبيرة، و المستقبل مفتوحة أبوابه بالعلم والعقل والإرادة .