مضر بدران في ذكرى رحيله

في مثل يوم أمس الإثنين 22 نيسان من العام الماضي ودع  الأردن واحداً من رجالاته المتميزين، حين ارتقى مضر بدران رئيس الوزراء الأسبق الى جوار ربه، تاركاً خلفه تاريخاً حافلاً بالعطاء، ومفعماً بالمواقف الوطنية الشجاعة، والقرارات السياسية والاقتصادية الحاسمة، التي تميّز رجل الدولة عن سواه من السياسيين. لم يكن أبو عماد رئيس وزراء عادي، رغم أنه تولى زمام مسؤولية الرئاسة لأربع مرات، في فترات غاية في الصعوبة والتعقيد ابتداء من أوائل السبعينيات ولمدة عشرين عاماً تنقل خلالها في مواقع غاية في الأهمية. وكان من أعقد المواقف التي واجهها اجتياح صدام حسين للكويت عام 1990، وما ترتب على ذلك من تفكيك للمنظومة العربية ما زالت سلبياته حتى اليوم. وقبيل الاجتياح بأيام كان هناك لقاء أردني عراقي في بغداد، برئاسة الملك الراحل الحسين بن طلال، ولم يتردد مضر بدران بإسداء النصيحة للجانب العراقي لكي لا يتورط في غزو الكويت، وعليه أن يركز جهوده على إعادة بناء قدراته وتعويض ما دمرته الحرب العراقية الإيرانية. وقد انزعج الرئيس صدام حسين من رسالة أبي عماد التي نقلها طه ياسين فقال لمضر معاتباً «أنا أهدي على أبي نادية (طه يس) وليس العكس». ومن الصعب تعداد المواقف الخطيرة التي كان له فيها رأي حاسم ولكنه مع الاختلاف في بعض القضايا مع المرحوم جلالة الملك الحسين إلا أن ثقة الملك في أبي عماد كانت قوية وراسخة. ولم يكن لينفذ قراراً أو توجيها غير مقتنع به، ويلجأ عادة للسياسة والدبلوماسية في إقناع الملك بعدم موافقته، وبالتالي عدم التنفيذ.

وعندما يتذكر الأردنيون مضر بدران يتذكرون فيه عدداً كبيراً من الصفات كان من أبرزها النزاهة. فلم يعرف عنه إلا الحفاظ على المال العام بشتى الوسائل والطرق، ولم يسمح لأحد بأن يتطاول على ثروات الدولة أو مصالحها تحت أي ظرف من الظروف. ولم يترك لعائلته إلا منزلهم الذي مول بناءه من بيع أراض ورثها عن والده. وكان يؤمن بعمل الفريق: يختار فريقه الوزاري بعناية، ولا يلجأ الى التعديل الوزاري طيلة عمر الوزارة، ويعمل وفق عبارة يرددها دائماً «جئنا معا ونذهب معاً». وهذا أعطى لفريقه الوزاري الفرصة لكي ينفذ ما لديه من برامج ومشاريع دون خشية من تغيير فجائي. لم يكن يعنيه رضا القوى الأجنبية أو غضبها لأنه تميز بالرؤية العميقة للأحداث من منظور وطني. وكان يتعامل بحكمة مع أصدقاء الأردن وأعدائه، ولا يسمح لنفسه التحرك في أي موقف لا يقتنع به أو ليس في مصلحة الدولة. وأذكر في عام 1981 انعقد مؤتمر الأمم المتحدة للطاقة المتجددة في نيروبي- كينيا وكان لي شرف تمثيل الأردن في المؤتمر. وحين تحدث مندوب إسرائيل عن المياه أشار إلى «قناة البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الميت «كمشروع إسرائيلي وأكد المشروع باعتباره الأساس. وحين تحدثت باسم الأردن ركزت على مشروع «قناة  البحر الأحمر الى البحر الميت» وأعطيتها الأهمية التي تستحق. فغضب مندوبا إسرائيل والولايات المتحدة غضباً شديداً وأبرقا إلى عمان احتجاجا. وحين عدت الى الوطن انهالت الأسئلة علي حول الموضوع. وبعد يومين حين شرحت للرئيس أبي عماد الموقف: ابتسم وقال: أحسنت يعطيك العافية. وكما يعرفه الجميع كان صاحب قرار دون تردد أو تلكؤ. المهم أن يقنع بوجاهة الموضوع والمصلحة الوطنية، وبعد ذلك يأخذ القرار المناسب، فأطلق اسم «القرار» على مذكراته التي نشرت عام 2020. وكانت تسيطر عليه فكرة الإنجاز وليس الكلام، يختلف مع الآخرين ولكن لا يعادي أحدا. فخلال توليه وزارة التربية والتعليم اهتم بالتوسع في بناء المدارس، وزيادة رواتب المعلمين، وابتعاث طلبة الثانوية إلى الخارج ليعودوا مدرسين في الوزارة.

 وكما أنجز في التربية والتعليم أنجز في التعليم العالي. إذ ترأس مضر بدران ثلاث لجان ملكية لإنشاء ثلاث جامعات هي اليرموك والعلوم والتكنولوجيا والهاشمية. وحرص على أن تكون هذه الجامعات على أفضل هيكلية ممكنة، وشجع على إرسال البعثات إلى الخارج وتجويد الإدارة والحاكمية. وهكذا خرج الأردن بهذه الجامعات الثلاثة المتميّزة على المستوى الوطني والدولي.
وأعطى اهتماماً خاصا أثناء رئاسته للوزارة لتعزيز البنية التحتية وخاصة الطرق والكهرباء والاتصالات، ولدعم الصناعة مع الاهتمام بالمشاريع الصناعية الكبرى إضافة إلى الزراعة. لم يكن يعنيه المنصب بقدر ما تعنيه المصلحة الوطنية، ولذا لم يكن حريصا على رضا الأميركيين، بل ربما لا يثق بهم بسبب انحيازهم المطلق لإسرائيل. وعندما ضغطت الولايات المتحدة على الأردن للدخول في مفاوضات السلام ولم يكن مقتنعاً بجدواها قرر الانسحاب من المشهد السياسي بشكل كلي. ولم يظهر على الساحة السياسية منذ العام 1992 وحتى رحيله في عام 2023، 
وأخيراً فإن رجالات الوطن وبناة نهضته يستحقون منا أن نذكرهم دائما ونسير على خطاهم بالوطنية والإخلاص والجرأة والنزاهة وحسن الإدارة والرؤية المستقبلية الواضحة والحزم في اتخاذ القرار، بعيداً عن التعلق بالمنصب والتمسك بالكرسي مهما كانت قيمته المادية أو المعنوية «فقيمة الوطن والوفاء له أكبر من أي شيء آخر» هكذا كان يقول الراحل الكبير مضر بدران.