بين جبروت الطبيعة.. وقسوة الإنسان

(1) أثارت سلسلة الزلازل المتتابعة وارتداداتها التي ضربت شمال سورية وجنوب تركيا مشاعر الحزن والأسى لدى الجميع. وبسبب ضخامتها حركت مشاعر التعاطف مع ذوي الضحايا والجرحى، واستدعت الترحم على القتلى الذين لم يكن إنقاذهم ممكناً، وقد تجاوز عددهم 45 ألفاً، بين طفل صغير لا يملك من أمره شيئاً، وعجوز مريض لا يقوى على الحركة، وما بين هذا وذاك من أفراد المجتمع. وحسب تقرير اليونيسف، فقد تأثرت في تركيا حياة ومأوى 5 ملايين طفل، بينما تأثر في سورية 2.5 مليون طفل. وجاء التوقيت في أصعب الظروف. فالزلزال وقع في مناطق تركية تفتقر إلى الخدمات نسبيا، ومناطق سورية شبه مدمرة ولا تزال تعاني من كوارث الحرب الأهلية التي امتدت على مدى 12 عاماً. وجاءت الموجة الزلزالية في فصل الشتاء حيث جعلت درجات الحرارة المتدنية والأمطار البحث عن القتلى والمصابين والمفقودين غاية في الصعوبة. هذا إضافة إلى الملايين الذين تشردوا بعد أن دمر الزلزال بيوتهم وغدو بدون مأوى. ويقدر عدد الذين تأثروا بالزلزال مباشرة أو غير مباشرة أكثر من 35 مليونا في سورية وتركيا معا. وبطبيعة الحال فقد دمر الزلزال أجزاء كبيرة من الشوارع والطرق وشبكات المياه والكهرباء، ومختلف مفردات البنية التحتية، إضافة إلى المباني التي انهارت أو تصدعت وآلاف المرافق الاقتصادية التي تعطلت. إنها كارثة إنسانية بكل معنى الكلمة تمثل جبروت الطبيعة التي لا ترحم وتتجاوز قيمتها الاقتصادية 25 % من الناتج المحلي الاجمالي لكلا البلدين.
والسؤال أين دور الإنسان في مواجهة النكبات التي تفرضها الطبيعة كالزلزال والبراكين والفيضانات؟ اين دوره في الإغاثة وفي الإنقاذ؟ وأين دور العلماء والخبراء في التنبؤ بمثل هذه الحوادث والاستعداد لها؟ وأين دور الإدارات الحكومية في اتخاذ الإجراءات الوقائية قبل حدوث الكوارث؟ وأين المساعدات الدولية التي كانت تتحرك ببطء شديد وخاصة تجاه سورية؟ وأين دور السياسيين وقادة الرأي العام؟
(2) ومع هذا، يحق لنا أن نتساءل: هل الكوارث الطبيعية فقط هي التي تستدعي أن تهتز لها مشاعرنا؟ أم أن الكوارث التي تصنعها الدول بنفسها وبالآخرين وبالإنسانية تستدعي التعاطف؟ وتتطلب التحرك للإنقاذ أيضاً؟ كوارث قد تتفوق بعشرات المرات على ما تحدثه الطبيعة بكامل جبروتها. والأمثلة كثيرة.
ففي الجزائر قتلت فرنسا مليون جزائري، وشردت عائلاتهم خلال فترة استعمارها لذلك البلد العربي.
وفي أثيوبيا قتلت القوات الإيطالية وفي أقل من 3 سنوات بتوجيه موسوليني وحزبه الفاشي أكثر من 400 ألف أثيوبي وحرقت مئات القرى والمدن بمن فيها من السكان. وخلال 6 سنوات من الاقتتال، كانت ضحايا الحرب العالمية الثانية في حدود 70 مليون قتيل، أي بمعدل 32 ألف قتيل يومياً من مختلف القارات، وجرى تدمير ملايين المنازل ومئات الآلاف من القرى والمدن. وفي حرب الولايات المتحدة على فيتنام تجاوز عدد القتلى 2.36 مليون نسمة خلال 15 عاما، أي بمعدل 431 قتيلا يوميا، إضافة إلى حرق البشر والشجر وتعطيل كل مرفق اقتصادي هناك. أما غزو الولايات المتحدة وحلفائها لأفغانستان فقد ادى الى مقتل 176 ألف افغاني اي بمعدل 24 قتيلا يومياً، وتدمير آلاف القرى والمساكن خلال العشرين سنة. وفي غزو الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها للعراق قتل ما يقرب من 600 ألف إنسان أي ما معدله 205 إنسان يومياً وتم تشريد أكثر من 5 مليون عراقي. ومنذ 75 عاما يقوم الاحتلال الإسرائيلي بقتل الفلسطينيين أفرادا وجماعات وتدمير منازلهم علانية ومسح قراهم، وتهويد تراثهم بشكل ممنهج. ويزيد مجموع ما قتلته القوات الإسرائيلية ولا تزال عن 160 ألفا ويتجاوز معدل التدمير اليومي 12 منزلا. ومنذ احتلال فلسطين دخل السجون والمعتقلات الإسرائيلية ما يزيد على 1.2 مليون فلسطيني بما في ذلك الأطفال والنساء والشيوخ. وحصار غزة ، الذي مضى عليه 16 عاما، وفيها 2 مليون إنسان، يجري تناسيه وكأنه لا يشكل كارثة قاسية حية، وجريمة إنسانية متواصلة بكل معنى الكلمة. وكذلك الحرب الأهلية في كل من اليمن التي حصدت حتى اليوم أكثر من 377 ألف قتيل و 3.2 مليون مشرد داخل وخارج البلاد. هذا إضافة إلى الدمار الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والعمراني المتواصل. أما ليبيا فقد حصدت الحرب الأهلية ما يزيد على 165 ألف مواطن وشردت مئات الآلاف وجعلت من ليبيا مسرحا لشتى القوى والعصابات. وفي سورية التي غدت ساحة مفتوحة للقوى الإقليمية والدولية، راح ضحية الحرب الأهلية ما يقرب من مليون إنسان. هذه الحروب بكل ما فيها من فظائع وإنهاك نفسي، وتحطيم معنوي، وتدمير اقتصادي، وفقدان لمقومات الحياة الإنسانية نتيجة للقتل والتشريد والاعتقال والاختفاء، ما كان لها أن تستمر لولا دعم الدول الأجنبية وفي مقدمتها إسرائيل والدول الكبرى ودول الجوار.
بعد كل هذا، والأمثلة أكثر من أن تحصى. هل تقتل الطبيعة من البشر أكثر مما يقتل الإنسان؟ إن قسوة ووحشية الدول الاستعمارية وحلفائها وعملائها ووكلائها والتمسك الفادح بالسلطة، تفوقت على جبروت الطبيعة، وألحقت ولا تزال تلحق بالبشرية المآسي التي تتخطى في فظاعتها وقسوتها معظم الكوارث الطبيعة، وتخلق من الصدوع الاجتماعية، والأحقاد الجهوية والطائفية وموجات الكراهية الظاهرة والدفينة التي تمتد لسنوات، ما لا تفعله الطبيعة، ولكن ربما ببطء أو بطريقة غير مفاجئة. واذا كان الواجب الإنساني يحتم علينا مساعدة إخوتنا ونجدتهم في سورية وتركيا، وأي بلد يتعرض لنكبة طبيعية، فلماذا لا يحتم الواجب الإنساني نفسه علينا جميعا المبادرة للسعي نحو وقف تلك الفظائع والحروب التي تشنها الدول الأقوى على الشعوب والدول الأضعف، والأنظمة المتحكمة على المواطنين الأبرياء، فتقتل من فيها وتدمر ما فيها بدون حساب وخاصة في المنطقة العربية؟
(3) صحيح أن المعاناة في سورية إضعاف المعاناة في تركيا. فسورية تعاني من الحرب الأهلية، ومن انقسام بين النظام والمعارضة، ومعظم الدول حددت موقفها من المساعدات ليس على ضوء التعاطف الإنساني النبيل، وإنما على ضوء علاقتها مع النظام. وفوق كل ذلك يعاني السوريون من مقاطعة دولية بسبب قانون قيصر الذي خرجت به الولايات المتحدة الأميركية منذ فترة ووضع الاقتصاد السوري ومن ثم الشعب السوري بأكمله بين مطرقة الحرمان وسندان الانقسام. لقد أدى الزلزال الأخير إلى تشريد مئات الآلاف لينضموا إلى المشردين الذين شردتهم الحرب الأهلية التي صنعها الإنسان ليرتفع عدد المشردين دون مأوى إلى 5 ملايين سوري وغذتها الدول الخارجية ابتداء من روسيا وأميركا وتركيا مروراً بإيران وانتهاء بإسرائيل.
لماذا لا تكون حادثة الزلزال المؤلمة والمأساة الإنسانية المرافقة، مناسبة للمراجعة السياسية الفورية العربية، فتنطلق من دمشق وطرابلس وصنعاء دعوة المصالحة والمشاركة، وتنطلق لدى المجموعة العربية دعوة الولايات المتحدة الأميركية والضغط عليها لإلغاء قانون قيصر وإيقاف العقوبات عن سورية وغيرها، وإتاحة الفرصة للإنسان السوري واليمني والليبي أن يستعيد حياته الطبيعية حتى يكون أكثر اعتماداً على نفسه في صنع مستقبله ومواجهة كوارث الطبيعة إذا وقعت.
ولا زالت المساعدات العربية تتحرك نحو سورية ببطء شديد وبكميات محدودة لا تتناسب مع الكارثة ولا تتناسب مع الإمكانات العربية.
لماذا لا تكون الكارثة مناسبة لنفض الغبار عن الجامعة العربية؟ بل وعن الأنظمة العربية لتتحرك نحو التعاون الحقيقي، بعيداً عن توجيهات الدول الخارجية سواء في الإقليم أو خارجه؟ ماذا تبقى لدى الأنظمة العربية ولدى الجامعة العربية؟ الكوارث الطبيعية والزلازل تقابل بمساعدات وإسعافات هزيلة، والعدوان الإسرائيلي المتوحش ضد الشعب الفلسطيني والمقدسات يقابل بالكلام وتكرار عبارات الاستنكار والإدانة والرفض، والتي لا تعني شيئاً في الواقع العملي، ولا تهز شعرة لدى الكيان الصهيوني العنصري أو الإدارة الأميركية.. إن “معظم الدول الغربية” لا يعنيها سوى مصالحها السياسية والتحالفات فيما بينها، ولا قيمة للمعاناة الإنسانية لديها إلا في أدنى الحدود. وتبقى الشعوب العربية بانتظار أن تتحرك دولها وقادتها وسياسيوها نحو عمل مشترك أمين و صادق. فهل يشهد المستقبل ذلك؟ تلك هي المسألة.