الأردن.. مركز إقليمي للصناعات عالية القيمة

(1)
في لقائه مع اعضاء غرفة صناعة اربد قبل ايام قليلة، صرح وزير الصناعة والتجارة والتموين والعمل معالي الاستاذ يوسف الشمالي “ان محرك الصناعات عالية القيمة الذي يشتمل عليه البرنامج التنفيذي لرؤية التحديث الاقتصادي، يهدف الى تهيئة الأردن ليكون مركزاً اقليميا لصناعة منتجات متميزة ذات قيمة عالية، بحيث تضمن البرنامج 64 مبادرة و116 أولوية بكلفة اجمالية، تصل الى 315 مليون دينار سنويا، منها 91 مليون دينار خلال العام الحالي”.
وأشار الوزير الى “ان صندوق دعم الصناعة الذي سيرصد له 30 مليون دينار سنويا، يستهدف تخفيف عبء كلف الانتاج والتكاليف الأخرى التي تعاني منها الصناعة الوطنية”، ولا شك بأن مثل هذا الطموح الوطني الرامي ليصبح الأردن مركزاً اقليميا لصناعات متميزة ذات قيمة عالية، يستحق الثناء والدعم والتشجيع، وفي الوقت نفسه، يتطلب الكثير من التفكير والجهد والتمكين والتنسيق والمشاركة والتشبيك، حتى تتحقق الرؤية ويصبح الحلم حقيقة واقعة، بخاصة وأن الأقليم يضم دولا قطعت شوطاً واسعاً في التصنيع وبشكل خاص في تركيا ومصر وقبرص ودولة الاحتلال الصهيوني، وبعض دول الخليج، ما يستدعي النظر في مختلف العوامل التي تؤثر في التصنيع، بخاصة تلك التي تعمل على تثبيط الانتاج الصناعي، وفي الوقت نفسه، تكثيف البحث عن المحركات الفعالة لمثل هذا الانتاج، فالمستثمر لا يركز على مفردة بعينها، بقدر ما يتناول مجمل المفردات، وما هي المنظومة الاستثمارية التي يمكن ان تتأتى عنها او تزدهر في رحابها المشاريع.
(2)
لعل الشكل الأول لدينا في هذا الشأن، يتمثل بصعوبة الاستثمار بالنسبة للدول المجاورة والكلفة العالية، فالأردن يحتل المرتبة 75 عالميا في سهولة الاستثمار، ويسبقه عدد من الدول، تأتي في مقدمتها الامارات وترتيبها 16 على مستوى العالم، أما تركيا وهي منافس قوي من حيث التقدم وحجم السوق والعمالة الماهرة، فتحتل المرتبة 33 في سهولة الاعمال، بينما الكيان الصهيوني ترتيبه 35 والبحرين 43 والمغرب 53 وقبرص 54 والسعودية 62 وعمان 68.
وهذا يستدعي قبل كل شيء، ان يكون هناك تتبع حقيقي لنقاط الصعوبة التي يواجهها المستثمر، ويتم اجمالها في حزمة واحدة، لكي تخرج من حالتها هذه، الى سهولة جاذبة للمستثمر، كما نشهد في الامارات وتركيا على سبيل المثال.
وبرغم كثرة الحديث عن نافذة استثمارية، ومحطة واحدة، ورحلة الكترونية، إلا أن الصعوبات ما تزال قائمة، ولا بد من تذليلها عمليا في أهم حلقاتها، وهو الموظف الذي يتعامل مع المستثمر، والمسؤول الذي يقرأ التشريعات الخاصة بالاستثمار، ويجب أن تنتقل عقلية الموظف والمسؤول من “التربص للأخطاء الإجرائية أوالقانونية أو البيئية والوقوف عندها” الى التعاون الأمين والنزيه مع المستثمر باتجاه الحلول والبدائل العملية السريعة، وأن ينظر للاستثمار والمشروع الجديد، على أنه فرصة للوطن وليس له شخصيا، وأن يأخذ بالاعتبار ان كل تأخير او إعاقة او تعقيد لمبادرة المستثمر الوطني أو الأجنبي، هو في الواقع إعاقة امام نمو الاقتصاد الوطني، وإهدار لفرص عمل ينتظرها عشرات المواطنين، كما أنها عقبة في تحسين راتب الموظف نفسه، بتمكن الحكومة من زيادة الرواتب للموظفين.
(3)
وحتى تصبح البيئة الاستثمارية الأردنية جاذبة حقا، وليس مجرد كلام على الورق أو أثير الهواء، لا بد للحكومة وبشكل خاص وزارة الصناعة والتجارة أولا من إعادة إنشاء بنك الإنماء الصناعي.
وثانيا المبادرة لحل مشكلات الشركات والصناعات القائمة حاليا والتي توقف بعض منها عن العمل، او خفض طاقته الانتاجية. ثالثا مشاركة البنوك والاتحادات والغرف الصناعية ذات العلاقة والخبراء في ابتكار حلول للمشكلات، ولا يقتصر الأمر على الحكومة وحدها. رابعا تشكيل فرق عمل لهذه الغاية، تدرس كل حالة بتفاصيلها، وتقترح الحلول او الاضافات او التغيرات المناسبة، وترفع توصياتها الى رئاسة الحكومة لاتخاذ القرار المناسب، باتجاه تصفية المشكلات وإعادة القدرة للمستثمر على استئناف نشاطه.
يتطلع الاستثمار الجديد، لأن يدخل بيئة استثمارية صحية وصديقة ومريحة له وللآخرين، وتبرز مشكلات القروض والديون المتعثرة والتمويل في مقدمة هذه المسألة. وحين يكون لدينا 148 ألف من اصحاب الديون المتعثرة مطلوبين للتنفيذ القضائي، فإن مثل هذه الأجواء من شأنها إثارة التوجس لدى المستثمر الجديد.
(4)
ان ارتفاع كلف الانتاج واحد من أولى المشكلات التي ينبغي مواجهتها والتغلب عليها، بحيث تنافسنا فيها الكثير من دول الاقليم، سواء في دبي او السعودية او مصر او تركيا. وتشمل تكاليف الانتاج عدة مفردات تعتمد على الصناعة ذاتها، وتأتي في مقدمتها كلفة الاستثمار وارتفاع سعر الفائدة والطاقة والمياه والنقل والتأمين والأجور.. كل ذلك في اطار ارتفاع اسعار المعيشة بشكل عام، بحيث تحتل الاردن المرتبة 57 في الغلاء على مستوى العالم، في حين تنخفض الكلفة في المغرب لتضعها في المرتبة 110 ومصر 137 وتركيا 130 وتونس 132 والجزائر 135، بينما الكويت في المرتبة 60 وعمـان والسعودية ترتفع قليلا عن الاردن، فتأخذ المرتبة 56 و53 على التوالي.
وحقيقة الأمر، ان حصر ارتفاع الكلفة بالطاقة والمياه يعطى صورة غير متكاملة، كما ان صندوق دعم الصناعة والبالغ 30 مليون دينار سنويا غير كاف ابداً، فالمطلوب في مجال الطاقة مثلا، تسهيل اجراءات تركيب انظمة الطاقة المتجددة (الشمسية) للصناعات بكل الوسائل وتخصيص تعرفة كهربائية منخفضة تماما للفترات البعيدة عن الذروة، مما يمكن ان يغير من انماط التشغيل لتكون في الليل للكثير من الصناعات، اما المياه، فإن لا حل لها سوى التوسع بانشاء محطات صغيرة في حدود الـ50 مليون م3 سنويا، تمول من الخزينة بدلا من الانتظار حتى يجمع التمويل اللازم لبناء المحطة الكبيرة (350 مليون م3 سنويا) والناقل الوطني الذي قد يستكمل في العام 2028.
(5)
تتمثل الصناعات عالية القيمة اساساً بالصناعات الكيميائية والبتروكيماوية والدوائية والالكترونيات والغذائية والروبوطية، وذات مدخلات الذكاء الاصطناعي، وما شابه ذلك. وتقوم الصناعات عالية القيمة بشكل اساسي على الإبداع والبحث والتطوير والتجديد والابتكار واستثمار الإمكانات العلمية والتكنولوجية بشكل ذكي. بالإضافة للإفادة من معطيات السوق والميزة التنافسية والتشبيك الأفقي والعمودي بين الصناعات، والقدرة على التنافس.
وهذا يعني ان نجاح الاردن لأن يكون مركزاً اقليميا للصناعات عالية القيمة، يتطلب منذ اليوم وضع برنامج قوي تتبناه الحكومة، ويعمل على ما يلي: اولا- تعزيز التشبيك بين القطاعات الصناعية والمؤسسات الاكاديمية (الجامعات) والبحثية. ثانيا- اقامة تجمعات او حلقات جامعية من جامعتين او أكثر، للوصول إلى الكتلة الحرجة من الباحثين، ليركز التجمع على موضوع معين كالصناعات الكيميائية او الالكترونية او الزراعة او تصنيع الغذاء.. الخ، وتستخدم المختبرات بشكل تكاملي ووفق برامج مشتركة. ثالثا- مبادرة الجامعات بتعديل تعليمات الترقية الاكاديمية، لتصبح البحوث التطبيقية والتجريبية مقبولة للترقية، تماما كالابحاث النظرية، بغية تشجيع الاكاديميين على التشبيك مع الصناعة. رابعا- تطوير وتوسيع المختبرات البحثية المشتركة، لتكون قادرةعلى الاستجابة لمتطلبات الصناعة، بخاصة في الكيماويات والدوائيات والالكترونيات. خامساً- تشارك التجمعات الجامعية بانشاء حاضنات الاعمال والإبداع، وتقديم الدعم المالي والعلمي الكافي لهذه الحاضنات.
ان البنوك والمؤسسات والصناديق المالية والشركات الكبرى ذات العلاقة بالصناعات عالية القيمة المضافة بمختلف أنواعها، مثل الفوسفات والبوتاس وشركات الاتصالات والصناعات الدوائية والبرمجيات وصناعة الاغذية، ينبغي ان يكون لها دور فاعل في هذا البرنامج، سواء من حيث المساهمة بانشاء الصناعات الجديدة، او تطوير مختبراتها وانشاء مختبرات بحثية، أو الافادة مما لديها من خبرات في الصناعات ذات العلاقة بانتاج الصناعات الجديدة.
كما ان وزارة الصناعة، وعبر فريق مشترك من الصناعيين والاكاديميين، مطالبة بوضع دليل أولي للصناعات المرشحة للاستثمار، مع دراسات اولية للجدوى الاقتصادية والتكنولوجية.
وأخيرا، وبالنظر إلى رأس المال البشري والخبرات المنوعة، والرؤية المستقبلية، فإن الطموح بأن يكون الأردن مركزا إقليميا للصناعات عالية القيمة، قابل للتنفيذ، إذا توافرت الإرادة الفاعلة والناجعة، والتشبيك الصادق، والاعتماد على الذات في التمويل الاجتماعي والقرار الوطني.