التجديد والإبداع .. في تنمية المحافظات

أصبح موضوع تنمية المحافظات ، عنوانا سياسيا واجتماعيا كبيرا، وجاذبا في نفس الوقت للمداولات السياسية والحراك الاجتماعي. فمن جهة نلاحظ أن المحافظات تعاني من ارتفاع معدلات البطالة ليتعدى معدلها (17%)، وبشكل خاص بطالة المرأة التي تتعدى (55%)، وخط الفقر الذي يتعدى (14%) في بعض المحافظات،و من جهة أخرى نلاحظ أن ما يجري لمواجهة هذه الحالة لا يحمل جديدا ويتحرك ببطء بكل المقاييس. وحين يتابع المواطن قراءة المخصصات لتنمية المحافظات فيجدها بعشرات ومئات الملايين. ولكن ما يجري على أرض الواقع شيء مختلف. فالأرقام الكبيرة التي تنشرها المؤسسة الرسمية نجد عند التدقيق أنها أرقام وضعت لتغطي (4) سنوات أو (6) سنوات. الأمر الذي يجعل مئات الملايين من هذه المخصصات مجرد عشرات تنفق سنوياً.
وعند النظر في مفردات الخطة التنموية بحد ذاتها لأية محافظة، يتبين أنها تقوم أساسا على تحسين الخدمات والبنية التحتية ، فتشمل التعليم والصحة والطرق وشبكات المياه والصرف الصحي، والمناطق التنموية وتكنولوجيا المعلومات، والثقافة والرياضة، وجزء بسيطا للصناعة والاستثمار،  وجزء أقل للزراعة. و من حيث المبدأ، فلا خلاف على أن كل خدمة، وكل عمل وكل مشروع، وكل مبنى وكل شارع، وكل مدرسة تضاف إلى المحافظات هي مفيدة وواجبة وضرورية. نعم. ولكن ذلك كله ليست التنمية المنشودة. فالتنمية المطلوبة تستدعي رؤية جديدة، وهي ليست مجرد تحسين الخدمات، على أهمية وحيوية ذلك، ولكنها “إنشاء حالة جديدة في المحافظات تحدث فيها تغييراتً اقتصاديةً واجتماعية و إنسانية حقيقية”. حالة تغير من أجواء الركود والبطالة والإحباط والفقر، إلى حركة وعمران وعمل وأمل. حالة تصبح أطراف المحافظة قادرة على التفاعل الاقتصادي الإنتاجي مع عاصمة المحافظة. حالة يتم فيها “استثمار الميزات النسبية و الطبيعية و المناخية و البشرية لتخرج منها مشروعات إنتاجية جديدة تساهم في زيادة الدخل لأبناء وبنات المحافظة”. هذه الحالة لا يمكن أن تتحقق من  خلال التركيز على تحسين الخدمات. بل إنها لا تتحقق إلا من خلال إنشاء مشاريع إنتاجية جديدة ومتقدمة، وتطوير وتحديث مشاريع قائمة. مشاريع تحمل معها فرص عمل جديدة للشباب والشابات وتتفاوت في حجومها بين المشاريع الفردية الصغيرة التي ينتظمها  إطار اقتصادي متجانس، ومشاريع متوسطة في منظومة شركات محدودة، ومشاريع كبيرة تعتمد على التكنولوجيا المتقدمة وتضيف شيئاً إلى صادرات البلاد. وقبل ذلك تعمل هذه المشاريع لتسد جزء من احتياجات البلاد إلى السلع المستوردة، حيث أصبح انفلات الاستيراد ظاهرة غير طبيعية، تضغط على فرص العمل، وتخنق الإنتاج المحلي بكل سبيل.
علينا الإفادة من خبرات الدول التي سبقتنا وحققت نجاحات باهرة مثل كوريا وماليزيا وتركيا وأجزاء من الهند والصين وغيرها. و أن نتعلم من تجربة الدول التي أغرقها الاستيراد وقتل سوق العمل والإنتاج فيها بضربة واحدة ،كما وقع في مصر مثلا. وفي هذا المجال فإنه يمكن الإشارة إلى المداخل الرئيسية التالية. أولاً: وضع برنامج استثماري لكل محافظة بحيث يستطيع أي مستثمر أن يطلع على هذا البرنامج الكترونيا وورقيا بكل ما يلزم من تفاصيل. ويتوقع أن يضم البرنامج مجموعات من المشاريع الإنتاجية المنوعة التي يمكن إنشاؤها في المحافظة بالإفادة من الميزة والخصائص التي تتمتع بها المحافظة. ثانياً: إقرار الحكومة لمنظومة من الحوافز القوية التي من شأنها أن تجذب المستثمر إلى المحافظة، ابتداء من تأجير الأراضي أو المرافق بأسعار رمزية، وانتهاء بالإعفاءات الضريبية لمستلزمات و مدخلات الإنتاج.ثالثا قيام وزارة الصناعة والتجارة و مؤسسة تشجيع الاستثمار بالتعاون مع القطاع الخاص بوضع قوائم للسلع التي يمكن إنتاجها في كل محافظة بقيمة مضافة عالية أو يجري استيرادها ، لتدخل في البرنامج الاستثماري لكل محافظة حسب إمكاناتها و ميزاتها النسبية رابعا: تكليف كل جامعة أو معهد عال في المحافظة من خلال التعاقد الرسمي معها على إنشاء مركز متخصص لتنمية المحافظة ومساهمة الجامعة والمعاهد في حل المشكلات العلمية والتكنولوجية التي تعترض سبيل التنمية والتصنيع، بما في ذلك التأهيل والتدريب بالتعاون مع مؤسسة التدريب المهني. .  خامساً إنشاء الشركات المساهمة والتعاونيات المحلية في  كل محافظة والتي من شأنها إقامة المشاريع وإتاحة الفرصة للمواطنين للمساهمة فيها. و أن تبدأ الحكومة تلك المشاريع على طريق بيعها للمواطنين في شكل أسهم. سادسا توسيع مفهوم الوقفيات من كونها مقتصرة على الأراضي والمباني وفي الإطار شبه الديني لتشمل الشركات والأسهم و المشاريع ومختلف الأصول والموجودات التي يمكن أن تكون ذات منفعة مجتمعية من منظور اقتصادي، وتشجيع الشركات الكبرى على إنشاء الوقفيات في المحافظات. سابعا: التعاقد مع الشركات والمؤسسات الكبيرة لزيادة مساهماتها في تنمية المحافظات من خلال المسؤولية المجتمعية للشركات على أن تكون هناك مجموعات من المشاريع يراد بناؤها من خلال مخصصات المسؤولية المجتمعية. ثامنا: إنشاء وتأصيل ثقافة الريادية والعمل الحر، وخاصة لدى الشباب والشابات ،وتقديم الدعم المهني والمالي للرياديين. وهذا يتطلب أنشاء مراكز للريادية في عاصمة كل محافظة، إضافة إلى أدوار وزارة التربية والتعليم والثقافة والسياحة المساندة. تاسعا إعطاء المحافظة درجة أكبر في إدارة شؤونها الاقتصادية دون الاضطرار للرجوع للعاصمة، وتفويض المحافظين صلاحيات كافية.عاشرا: تشكيل فرق هندسية وتكنولوجية في كل محافظة لتطوير الصناعات والمشاريع الزراعية التقليدية والبسيطة لزيادة القيمة المضافة في منتجاتها.
وأخيراً فإن تنمية المحافظات ليست بالفزعة ولا الهبة الطارئة ولا القضية الموسمية وهذا يتطلب أن تكون هذه التنمية في إطار مؤسسي صحيح. وقد أنشأت دول عدة وزارات أو هيئات متخصصة لتنمية المحافظات والريف، فماذا ننتظر نحن حتى نفعل ذلك؟ كما تتطلب هذه التنمية تخصيصات مالية حقيقية تتعدى الحجم الحرج ريثما تنهض المحافظات. والحديث هنا عن (600) مليون دينار سنوياً  للمشاريع الإنتاجية لتكون قادرة على توليد (20) ألف فرصة عمل جديدة في كل عام لمواجهة حالة البطالة  و الأيدي العاملة الناشئة والباحثة عن عمل. إن أجزاء كبيرة من هذه المبالغ يمكن توفيرها من خلال ضغط النفقات الحكومية بمقدار (7%) إضافة إلى إنشاء رسوم خاصة تذهب لصندوق المحافظات من ضريبة تفرض على تعاملات السوق المالي وعلى رسوم عقارية لغير الأردنيين و غير ذلك. أما الاعتماد على المعونات والمساعدات والقروض لتنمية المحافظات فهو طريق قصير سرعان ما يضيق ويتوقف. إن الدور التنموي للمحافظين ولمجالس المحافظات وتحويل المحافظ إلى مسئول عن التنمية وجذب الاستثمارات وتيسير أعمال المستثمرين ينبغي أن يحتل المكانة الأولى ويجب تحويله إلى واقع فعلي وهو أمر معمول به في معظم دول العالم فلماذا لا نفعل نحن.
إن تنمية المحافظات تتطلب برامج طويلة المدى تتسم بالتجديد و الإبداع المستمر وصبراً على التنفيذ. ولكن في النهاية هذا هو الطريق الصحيح للمستقبل المنشود .