مواجهة “كورونا” وتحريك عجلة الإنتاج

رغم الجهود الضخمة التي يبذلها العالم للتغلب على جائحة كورونا، ورغم الجهود الوطنية المتميزة الذي تبذلها طواقمنا الطبية وقواتنا المسلحة وأجهزتنا الأمنية، إلا أن جميع المؤشرات تدل على ان الوباء سوف يستمر لأشهر عديدة قادمة، وأن تعافي الإقتصادات الوطنية والدولية قد تستغرق سنتين أو أكثر.
ومن هنا، علينا التفكير في آليات العمل المناسبة التي تحافظ على مبدأ الأردن الذي لا يتزعزع “المواطن أغلى ما نملك” الذي أعاد تأكيده الملك عبدالله الثاني في خطابه للأردنيين يوم الجمعة من جهة، وفي نفس الوقت نعمل على إدارة عجلة الإنتاج باضطراد، ولكن دون تسرع، لنجعل الحياة ممكنة ومتماسكة للشرائح المختلفة من الشعب الأردني.
ان نقطة الانطلاق في المواجهة تتمثل في مبدأين: الأول “الابتعاد عن التفكير العدمي الذي لا يرى سوى “الأبيض أو الأسود” و”إما هذا وإما ذاك”، و”إما الصحة أو الاقتصاد”، والثاني “أن الهندسة والتكنولوجيا والرقمية والإدارة يمكنها توليد حلول تفصيلية لكل مشكلة لا يمكن الحصول عليها جاهزة”. إن الصحة مطلوبة في كل لحظة والاقتصاد مطلوب ايضاً،و اساسيات الحياة من ماء وكهرباء وغذاء وأمن مجتمعي، كلها مطلوبة، وهي التي توفر للصحة مستلزماتها. وتتجلى عبقرية الدولة وحكمتها في إتاحة الفرصة لخبرائها ومهندسيها وشبابها لابتداع الحلول التي تجعل البدائل مفتوحة للاختيار، وتخرج من صندوق”إما هذا او ذاك” إلى فضاء البدائل والفرص الممكنة. ولأن 92 % من الشركات والأعمال لدينا هي مؤسسات صغيرة ومتوسطة وتوظف ما يزيد على 0.70 مليون مواطن فإن كثيرا منها بحاجة إلى حلول فنية ولوجستية خاصة ، وبالسرعة الممكنة، لضمان انسياب العمل والتمويل من جهة والمحافظة على الصحة وعدم انتشار الوباء من جهة ثانية، آخذين بعين الاعتبار أن التهاون في الجانب الصحي غير مقبول، وان الجانب الاقتصادي الاجتماعي يتسم بالمرونة التي تساعد مع التشارك وحسن الإدارة وعدم الإنفراد بالقرار، على اجتياز المرحلة الصعبة. ان الرؤية الاستراتيجية تقتضي النظر في 5 اتجاهات رئيسية: الجغرافيا، واللوجستيك، والتجمعات، والتكنولوجيا والانسان.
على جانب الجغرافيا، من الضروري تكثيف الجهود للوصول إلى مناطق آمنة ونظيفة على مستوى المحافظات والألوية، ويتم عزلها ، بمفهوم إيجابي، وتضع الإدارة ضوابط صحية وإدارية وفنية للدخول والخروج منها، سواء للسلع إو للمواطنين وحسب الضرورة. وهنا لا بد من تشكيل فريق مشترك على مستوى المحافظة الآمنة النظيفة أو اللواء للدخول في التفاصيل الفنية لكيفية المحافظة على النشاط الاقتصادي بل وزيادته سواء في جانبه الزراعي أو الخدمي أو الاجتماعي.
وفي جانب اللوجستيك فإن مفهوم “التوصيل” (ديلفري) المادي أو الرقمي يمكن تعميمه على اوسع نطاق في توصيل المواد او المنتجات على أنواعها دون الأشخاص. وهذا يتطلب ان تقوم وزارة النقل وهيئة الإتصالات بتسجيل المركبات الراغبة في العمل ويتم تعقيمها والتأكد من خلو أصحابها من “كورونا”. وعليه ، فإن تجمعات جديدة يجب تكوينها ووضع التطبيقات المناسبة لها سواء لنقل الطلبات الصغيرة أو البضائع أو سواها. ولا بد لفريق مشترك من الصحة والمهندسين أن يرسم بروتوكولات الحركة والمناولة لكل هذه الآليات والأفراد ، ومن ثم يجري تعميمها.
وفي جانب التجمع، فإن المصانع والأعمال الصغيرة والكبيرة تتطلب وضع برامج لها للعمل بالتعاون مع غرفة الصناعة والنقابات العمالية ووزارة النقل ونقابة المهندسين والكوادر الصحية. وكل مصنع او نشاط اقتصادي من نوع معين يوضع له بروتوكول صحي وعمالي وفني محدد، حتى يتمكن من استئناف العمل. وليكن الهدف التشغيل على عدة مراحل تغطي 25 % من الاستطاعة ثم 50 % وهكذا مع تحسّن الاوضاع والسيطرة على المتغيرات. وفي الصناعات والأعمال الكبيرة فلا بد ان تضع كل منها برنامجا خاصا تتم المصادقة عليه من الصحة والأمن.
اما المزارع والصناعات المنزلية، فينبغي تخصيص فريق عمل خاص بها في كل محافظة للدخول بكافة التفاصيل التي تعزز من امكانات الانتاج الزراعي والغذائي بكامل حلقاته، بما في ذلك مدخلات الانتاج والعمالة وتناول المنتجات ونقلها وتوزيعها.
ان تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وما يمكن أن ينبثق عنها من تطبيقات في الإدارة والصناعة والزراعة والخدمات جعلت من الممكن تقليص الحركة الفيزيائية للإنسان والقيام بكثير من المهام منزليا. وهنا تبرز اهمية وفاعلية الحكومة الإلكترونية والشركات الكبيرة في الأحوال الطارئة .فهل يبرهن الأردن على تفوقه في التكنولوجيا الرقمية والهندسة في زمن “كورونا” ؟ ذلك هو التحدي للجميع.
اما حركة المواطنين فيجب ان تستمر حسب توجيهات الحكومة وفي حدها الأدنى وفقط للأفراد الذين تقتضي طبيعة عملهم الخروج ووفق ضوابط محددة، وأهمها تصميم مسارات الحركة وخطوط الإنتاج والملابس الخاصة. وفي جانب التمويل وتأجيل الاقساط وتخفيض الفائدة وتقديم الدعم للأفراد المتعطلين أو الشركات فإن العمل يجب ان يتجه نحو إعادة قراءة موازنة الحكومة ومؤسساتها ووضع بروتوكول مالي جديد يغطي الاحتياجات المستجدة.
وحتى لا تقع أخطاء كبيرة، فلا بد من التمييز بين المتطلبات أو التوجهات العامة التي تصدرها الحكومة، وبين المتطلبات الخاصة لكل قطاع، وأحيانا لكل مؤسسة، ولكل منطقة أو محافظة حتى نعيد للإنتاج قدراته الطبيعية، وفق افضل البرامج الممكنة. وهنا لا بد من انشاء لجان على مستوى المحافظات يشارك فيها بالإضافة إلى الجانب الرسمي ممثلون عن الجامعات والنقابات المهنية وخاصة المهندسين والمبرمجين وغرف الصناعة والبنوك والتجارة والاتحادات ومنظمات المجتمع المدني لتضع كل لجنة التفاصيل الفنية الخاصة بالمرافق الانتاجية والخدمية في المحافظة. وبذا يمكن في مدى مستقبل قريب استعادة النشاط الاقتصادي الاجتماعي والمحافظة على استمراره. إن الثقة العالية والمتبادلة بين الحكومة بكافة أجهزتها، وبين المواطنين يمكن البناء عليها لتحقيق إنجازات كبيرة تجعل الاعتماد على الذات عنوانا للمرحلة القادمة.