رسالة بودابست… هل نقرأها في عمان؟؟

في كلمته الموجهة إلى المشاركين في المنتدى العالمي السابع للعلوم،الذي انعقد في العاصمة المجرية بودابست، أكد الملك عبد الله الثاني على مسألة بالغة الأهمية والحيوية وهي: “أن الجهود العلمية هي القوة الدافعة لبقاء وتميز المجتمع الإنساني”. ، و” أننا لن نستطيع أن نبني المستقبل الجامع والمستدام الذي يحتاجه العالم دون زخم الحماس للاكتشاف والابتكار”. وأتبع الملك ذلك بالتأكيد على أن “هناك حاجة عالمية ملحة لمزيد من جهود التعاون والشراكة بين الجميع، كونه لا قيمة لامتلاك الوسائل العلمية لتخفيف المعاناة المنتشرة اليوم، إذا لم يكن هناك إرادة سياسية ودولية لاتخاذ خطوات عملية في ذلك الاتجاه”.
وحقيقة الأمر، أن ما ينطبق على المجتمع الإنساني بالعموم، ينطبق بالدرجة الأولى على المجتمع الوطني. بل انه لا يمكن لأي بلد أن تكون له مساهمات ذات قيمة على المستوى الدولي،ما لم تكن الدولة الوطنية قد رسخت الجهود العلمية لديها، لتكون هي القوة الدافعة لبقاء وتميز المجتمع لديها. كما أن الدولة لا تستطيع أن تبني لنفسها المستقبل المستدام الذي تحتاجه، دون العلم والعقل والعمل، ودون زخم الحماس للإبداع والاكتشاف والابتكار.
وإذا كان لا تقدم للإنسانية دون العلماء والمكتشفين ودون ازدهار العلوم، فإنه وبنفس المقياس، لا تقدم لأي شعب دون العلماء والمفكرين والتكنولوجيين، والاعتراف بهم وبدورهم على أرض الواقع والممارسة.
وهذا يعني أن رسالة الملك إلى المجتمعين في بودابست، موجهة أيضا إلى الحكومة في عمان، والى المؤسسات الوطنية ذات العلاقة . ونحن إذا استعرضنا المشكلات الكبرى التي يواجهها الأردن، كالتصنيع والمياه والطاقة، والتصحر والزراعة، وتراجع التعليم، والبطالة والفقر وبطء النمو الاقتصادي، والتغيرات المناخية، وتنمية المحافظات ،وتطوير النقل والسياحة ،وغير ذلك الكثير، نجد أنه من غير الممكن مواجهة هذه المشكلات، دون المشاركة الفاعلة للعلماء والمفكرين والخبراء. كما أنه من غير الممكن الوصول إلى حلول مبتكرة وبدائل جديدة، دون اكتشاف ودون إبداع، ودون أن يكون للحكومة والمؤسسات الرسمية والأهلية زخم الحماس للتشارك والتعاون على طريق الإكتشاف والابتكار . إن غياب كل ذلك يدفع الدولة للدخول في حلقة مفرغة.
إن نقطة البداية على المستوى الدولي والوطني، كما يقول الملك، هي” الإرادة السياسية لاتخاذ خطوات عملية” في هذا الاتجاه. فهل تتوفر لدينا الإرادة السياسية لتوظيف العلم والخبرة والتكنولوجيا والإبداع والابتكار من اجل حل مشكلاتنا الصعبة المعقدة؟ و من ثم النهوض و التقدم ؟ أين العلماء في كل وزارة ومؤسسة رسمية أو أهلية ؟ كم عدد “الخبراء العلماء الحقيقيون” الذين يقدمون الرأي والمشورة للدولة؟ ويقترحون الحلول في الزراعة والصناعة والسياحة والمياه والطاقة والصحة والسياسة وتصريف مياه الأمطار وتجميل المدن؟ ومع من يعملون؟ كم عدد العلماء من أساتذة الجامعات ( البالغ عددهم أكثر من 8500) الذين يقدمون علمهم ومشورتهم وخبرتهم للدولة؟ بقطاعاتها المختلفة وشركائها الرسميين والأهليين على حد سواء؟
حينما يكون معدل الاختراعات في بلدنا و البلاد العربية (1) اختراع لكل مليون من السكان، مقابل (2600) اختراع في اليابان و 466 اختراع في الصين، وحين يكون مؤشر الإبداع لدينا 36 من 100، وترتيبنا 64 بين دول العالم، هل يثير ذلك تساؤلات لدى الحكومة؟ وهل يحدث صدمات لدى وزارات الصناعة و الثقافة والتربية والتعليم العالي ؟ كم هي المبالغ المخصصة وما هي الحوافز وما هي الاستعدادات للتعامل مع العلم والتكنولوجيا من أجل الوصول إلى حلول جديدة؟ خاصة ونحن في عصر لم يعد هناك من مشكلة إلا وتم تطوير الحلول اللازمة لها.
إن ما نراه حقيقة، يوحى بتحييد كبير للعلماء والخبراء الوطنيين عن مركز المشورة الحقيقية لصانع القرار. وإذا ما كان هناك اضطرار للمشورة يتم الاعتماد على العلماء والخبراء الأجانب من خلال المكاتب الاستشارية الأجنبية.
إن الدول لا تتقدم إلا إذا انخرط علماؤها وخبراؤها ومفكروها ومهندسوها و فنيوها في العمل جنبا إلى جنب مع مؤسسات الدولة، والقطاعات المختلفة. هكذا نهضت كوريا وسنغافورة والصين والهند و ايرلندا وغيرها. ونذكر هنا أن دولا مثل بريطانيا أو الهند لديها وظيفة “كبير العلماء” في رئاسة الوزراء ومعه طاقم من العلماء المتخصصين.
نقول ذلك ونحن نستعرض تشكيل الهيئة العليا المشرفة على المشروع النووي والتي صدر قرار بها من مجلس الوزراء يوم الأربعاء 4/11/2015.لقد خلت هذه الهيئة ،مع تقديرنا واحترامنا العالي لكل من ورد اسمه فيها، خلت من آي خبير أو عالم أردني في مجال الطاقة عموما، والطاقة النووية بشكل خاص، باستثناء رئيس هيئة الطاقة النووية. هل يعقل أن الجامعات الثمانية والعشرين في بلدنا، وكليات الهندسة الثلاثة عشرة، وكليات العلوم الخمسة عشرة ،وكليات علوم الأرض الثمانية ،ومن عملوا في الطاقة لـ 20 أو 30 أو 40 سنة ،و الأردنيون الخبراء المغتربون في شتى بقاع الدنيا ،هل يعقل انه لا يوجد بينهم ثلاثة أو خمسة خبراء يمكن أن ينضموا إلى الخبراء الأجانب؟ ليس انتقاصا من مكانة أولئك أبدا، ولكن للتأكيد على التفاعل والمشاركة و على الجوانب التي تتطلب معرفة أوسع و أعمق بالوطن و مشكلاته و متطلباته. هل يعقل أن لا نجد من يمكن أن يجلس مع هؤلاء ويتبادل الرأي و العلم معهم؟ هل نتوقع من هذه اللجنة أن تدخل في تفاصيل كثيرة للمشروع من مثل متطلبات الأمن الوطني، وتوفير المياه للزراعة، و إشكالية الربط الكهربائي مع الجوار، و توفير المياه في حالة الكوارث النووية، و البدائل الأجدى إقتصاديا في ظل حجم الإقتصاد الوطني و المديونية العالية، و أولويات وطنية أخرى كثيرة ابتداء بالصخر الزيتي ومرورا بالطاقة الشمسية و انتهاء بالسكة الحديد و تنمية المحافظات؟
إن الرسالة الملكية القيمة الموجهة إلى مؤتمر العلوم في بودابست، بحاجة لأن تعاد قراءتها بتمعن و مسؤولية في “الدوار الرابع” وفي “الجبيهة” وفي “العبدلي” وفي “الشميساني” و في رئاسة كل جامعة، ليتم ،في ظل إرادة سياسية قاطعة، على أثرها تشكيل شبكة وطنية متماسكة تضم مجموعات من العلماء والخبراء لتتعاون مع القطاعات المختلفة ، وتساعد في وضع الحلول المبتكرة الصحيحة للكثير من المشكلات التي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم، و لا حل لها إلا من خلال العلم و الإبداع و الإبتكار ،فلعل ذلك يساعد على صنع المستقبل الذي نطمح إليه بطريقة أفضل، و يمكننا من المساهمة الفاعلة في الجهود الدولية لتوظيف العلوم في خدمة الإنسانية.