السكة الحديد وتنمية المحافظات

كانت إشارة هامة وفي مكانها، حين أكد الملك عبد الله الثاني في زيارته إلى معان على نقطتين رئيسيتين، الأولى: ضرورة بناء منظومة وطنية من السكة الحديد ،والثانية: تنمية المحافظات. و المسألتان مترابطتان إلى حد كبير.
وحقيقة الأمر أن هذه الإشارة تفتح ملف النقل بكامله، والذي يؤثر الكثيرون إبقاءه مغلقا وكأنه غير موجود، أو كأنه ليس من مسؤولية الدولة. فبداية ليس هناك من قطاع مكلف وثقيل على الاقتصاد الوطني وعلى التنمية كما هو النقل من جهة والكهرباء من جهة أخرى. آذ يشكلان معا 82% من فاتورة الطاقة. لقد مضى قطاع النقل يتوسع على مدى السنوات دون تخطيط، ودون رؤية اقتصادية اجتماعية من الدولة، باستثناء بناء الطرق. فقطاع النقل في بلدنا العزيز هو في ابسط الصور التي تعرفها الدول الحديثة سواء في المدن أو القرى و سواء لنقل البضائع أو الأشخاص أو الوقود بأشكاله المختلفة. وإذا استثنينا عددا محدودا من الشركات الصغيرة أو المتوسطة فهو في الأغلب سيارات فردية، خاصة وعامة وحافلات أو شاحنات، تنقل ملايين الركاب سنويا وملايين الأطنان من البضائع لمئات الكيلومترات. ويستهلك هذا القطاع 42% من الطاقة المستهلكة بكلفة تتعدى (1375) مليون دينارا بالأسعار السائدة اليوم. هذا إضافة إلى تكاليف المركبات، وقطع الغيار، وصيانة الطرق ،والتأمين، وتكاليف الحوادث، والتي قد تتعدى في مجموعها 1400 مليون دينار سنويا. وهي في مجملها تكاليف مرتفعة تصل إلى 12% من الناتج المحلي الإجمالي. فإذا أضيف إلى ذلك تكاليف الفرصة الضائعة سواء في انخفاض الكفاءة أو الوقت المستنفذ أو العمالة الوطنية فإن الكلفة الإقتصادية الفعلية تتعدى 16% من الناتج المحلي الإجمالي.
أما السكة الحديد فهي غائبة تماما في برامج الحكومات المتعاقبة. ويقع الأردن في المرتبة (128) بين دول العالم من حيث السكة الحديد. ولولا أن الخط الحديدي الحجازي، الذي جرى تشغيله قبل 108 سنوات، تم الاحتفاظ بأجزاء منه، لكان الأردن في آخر القائمة. هذا علما بأن دولا صغيرة في أفريقيا وآسيا وأوروبا لديها شبكات وطنية للسكة الحديد. فجزيرة قبرص و مساحتها لا تتعدى 9250 كيلومترا مربعا تصل الشبكة الحديدية فيها إلى 1950 كم. وفي إسرائيل 1200 كم، ناهيك عن جميع بلدان أوروبا التي تصل فيها الأطوال آلاف الكيلومترات،حتى في البلدان الصغيرة مثل الدنمارك وسويسرا و بلجيكا وبلغاريا.
و يلعب قطاع النقل دورا بارزا في التنمية الإقتصادية.و للأسف لم تنجح الدولة بالمساعدة على إنشاء شركات قوية منظمة معتمدة للنقل العام سواء داخل المدن أو خارجها . و من جهة أخرى فإن الربط بين تنمية المحافظات والسكة الحديد مسألة بالغة الأهمية. فالميزات المعروفة للسكة الحديد من حيث أنها أكثر اقتصادية، وعالية الأمان والاعتمادية، وقادرة على نقل كميات كبيرة من البضائع، من شأنها أن تتجاوب مع طموح الأردن ليكون حلقة وصل لوجستية بين عدد من الدول العربية . يضاف إلى ذلك الأهمية الإستراتيجية للسكة الحديد بمفهوم الأمن والدفاع والتحرك السريع عند الكوارث. كما أن السكة الحديد تعمل على تنشيط السياحة، وتنشيط التجارة الداخلية، وخلق صناعة جديدة تولد فرص عمل دائمة ومتقدمة. وهذا ما تحتاجه المحافظات. على أن أهمية السكة الحديد في التنمية إضافة إلى ما تقدم تتمثل في أولا: تيسير انتقال رؤوس الأموال والعمالة إلى مواقع استثمارية ومشاريع جديدة في المحافظات والأرياف والأطراف.و ثانيا تصنيع الإقتصاد و الذي يشكل العمود الفقري لتنمية المحافظات. الأمر الذي يساعد على إحداث تغييرات إجتماعية ثقافية اقتصادية جوهرية، وتوليد فرص عمل جديدة ،وتنشيط الزراعة في الأماكن البعيدة، وتخفيف الهجرة من الريف إلى المدينة، والتي وصلت إلى 82% من السكان في المدن. وتعمل السكة على ربط العواصم الاقتصادية للمحافظات بعضها ببعض بنظام يمكن الاعتماد عليه. هذه كلها حقائق استندت إليها دول العالم حين انشأ شبكات السكة الحديد منذ اكثر من 150 عاما.
والسؤال بطبيعة الحال ،لماذا هذا الإهمال والتغاضي عن السكة الحديد، وعن تنمية المحافظات ؟على الرغم من أن “الكلام” في الموضوع يعود إلى عشرات السنين،و يتكرر من سنة إلى أخرى ومن حكومة إلى أخرى. ما الذي يجعل الدولة تغض النظر عن هذا المشروع الحيوي الإستراتيجي؟، وتقفز إلى مشاريع اقل جدوى وأعلى كلفة،و أكثر خطرا مثل المحطة النووية التي ستكلف (3) أضعاف السكة الحديد؟ ولن يشعر بها المواطن في القرية والريف. إن إنشاء شبكة بطول 500 كم يتطلب استثمارات في حدود (6) مليارات دولار . وهنا ينبغي الإفادة من انخفاض أسعار النفط، لا لتقليل شأن قطاع النقل و التراخي بشأنه، و لكن اعتبارها فرصة ايجابية للانخراط بدون تردد في بناء شبكة سكة الحديد. خاصة وان دولا تربطها علاقات إستراتيجية مع الأردن قادرة على بناء مثل هذه الشبكة، ونعني هنا الصين والهند وكوريا.و قد أبدت الصين استعدادها أكثر من مرة لبناء المشروع و تمويل الجزء الأكبر منه. و لكن التجاوب كان محدودا بل غائبا. و ذهبت الحكومة إلى شراكات سرية و غامضة في الغاز و المياه مع إسرائيل ،ستتبعها غالبا اتفاقية ربط كهربائي لضمان استقرار الشبكة الكهربائية إذا أصرت الحكومة على المشروع النووي بكل الأخطاء و الأخطار البنيوية فيه.
هل يمكن التقاط الإشارة الملكية ؟ فتبادر الحكومة إلى العمل الجاد لتنفيذ مشروع السكة الحديد ،خاصة و أن الكثير من الدراسات و التقارير موجودة لدى وزارة النقل ، و أن الزيارة الملكية الأخيرة إلى الصين أكدت على الشراكة الإستراتيجية بين البلدين، و الصين أصبحت من البلدان المتقدمة في صناعة السكة الحديد، و هي في نفس الوقت مستورد للفوسفات الأردني ؟.هل يمكن أن تشكل الحكومة فريق عمل ذا خبرة و معرفة لهذه الغاية ؟ و تعمل على أن يكون عام 2022 هو عام تشغيل السكة الجديدة ؟إن توسيع التجارة مع الأقطار العربية وتجارة الترانزيت لن تتطور في غياب السكة الحديد و التي تمثل جزءا من مستقبل الأردن المتوجه إلى الإقتصاد الصناعي و الخروج بالمحافظات إلى آفاق تنموية جادة و جديدة.