دولة المواطنة…. لا دولة العصبية

بعد تجربة سياسية وفكرية طويلة ومتنوعة وغنية، عبر “المنصف المرزوقي”، رئيس الدولة التونسية السابق، عن رؤيته للحالة العربية بقوله: إن الربيع العربي وبالتالي أزمة المنطقة العربية انطلقت من طبيعة بنية الدولة العربية أولا، ومن نتاج أعمال هذه الدولة ثانيا. فالدولة العربية بعد الإستقلال عن الإستعمار، بدلا من أن تقوم قوتها و  شرعيتها على المواطنة و الإنجاز، باعتبارها القاعدة المستقرة للدولة الحديثة التي لا بديل عنها من اجل الاستمرار والاستقرار والإعمار،لجأت إلى العصبية لتكون دعامة بقائها و مصدر سلطتها .  وهي إما عصبية جهوية أو دينية أو طائفية أو مذهبية أو عرقية أو قومية أو عسكرية أو حزبية أو عقائدية أو مزيج من هذا وذاك. وكل عصبية بطبيعتها تلغي مبدأ المساواة وتحمل في ثناياها الإقصاء والاستهانة بالآخر، وتتضمن تفضيلا لمجموعات من المواطنين على أخرى. وهذا يدفع السلطة الحاكمة و أجهزتها بالضرورة إلى التشبث بالمواقف المسبقة، والحقائق الخاصة المطلقة التي لا تقبل نقاشا ولا تستقبل تغييرا وتجديدا. الأمر الذي يمهد لطريق السلطوية والانزلاق في الدكتاتورية بصورتها الناعمة أو الخشنة. أما الإنجاز المبرمج الهادف إلى إحداث نقلات نوعية في حياة المواطنين، فيأخذ أهمية ثانوية، و يتم استبداله بالوعود والكلام والخطب و الأمنيات.
وإذا كانت هذه ركائز الدولة العصبية،في الكثير من أقطار الوطن العربي، فإنها تصبح مرتعا خصبا للفساد وبيئة جاذبة للمحسوبية و المنافع الفردية والفئوية، حيث تركز الدولة  جهودها وتسخر مواردها من اجل الإستمرار لا الإعمار، وللمحافظة على الحكم لا لتنمية المجتمع، ولتدعيم العصبية التي تمسك خيوط الدولة لا لبناء المؤسسات و دولة القانون. ولأن المواطنة غائبة فإن الاقتراب من “عصب الدولة”، أي من أصحاب المذهب أو العرق أو الجهة الحاكمة، يتطلب كل أنواع الالتفاف والتقرب والاحتيال، ويصبح تبادل المنافع والمكاسب هو النمط والتقليد الذي يحكم العلاقات بين مكونات المجتمع ويصبح القمع هو الضامن الوحيد للاستمرار.
إن النتاج الرئيسي لدولة العصبية يتمثل في هشاشة البنيان من جهة،وانتشار القمع والفساد والفقر من جهة ثانية، لأن رفاهية المواطنين وحقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية تحتل مرتبة متأخرة في دولة العصبية ،أو الدولة الخلدونية كما يسميها المرزوقي. و هذا كله يعظم من الطاقة السلبية في المجتمع ومن الصدوع و براكين الغضب الداخلية التي لا بد و أن تنفجر.
وما يؤكد عليه المرزوقي وغيره من الباحثين والمفكرين، آن الانفجار الذي من المتوقع أن يقع في آي لحظة  نتيجة لتفاعلات المجتمع مع مربع”العصبية والفقر والقمع والفساد” ،لا يستطيع احد أن يتنبأ بموعد حدوثه، ولا بالمكان أو الزمان الذي يقع فيه الانفجار. ولا تستطيع دولة العصبية أن تنجو منه، إلا إذا استدركت الأمر في وقت مبكر،و تحولت و تغيرت إلى دولة المواطنة والإنجاز المتناسب مع إنجازات الدول الأخرى ،في الوقت المناسب وقبل فوات الأوان، ودون القفز على الواقع و تجاهل طبيعة المتغيرات.
و رغم كل شيء، فإن المواطنين في أي بلد هم بطبيعتهم مسالمون، لا يبحثون عن العنف أو القتل أو الدمار، وإنما يبحثون عن الحياة الأفضل، وعن التعليم والصحة وفرص العمل، وكرامة الإنسان و المشاركة في إدارة شؤونهم،إنهم يبحثون عن الإصلاح الذي تأخر،و الإقتصاد الذي تعثر،و الديموقراطية التي تبعثرت . ولذا لم تبدأ ثورات الربيع العربي بالعنف أبدا، وإنما بدأت سلمية مطالبة بالتغيير باتجاه العدالة والإنصاف و الحرية، ووقف الفساد، ووضع حد للقمع والفقر،و وقف احتكار الحكم والإدارة. ولكن السلطة القائمة على العصبية سواء الطائفية في سوريا، أو الجهوية الفردية في ليبيا، أو المصلحية القبلية في اليمن، أو الإيديولوجية المذهبية في العراق، كلها رفضت الإصلاح، ولجأت إلى مزيد من القمع والعنف فتمزقت الدولة وانهارت دولة العصبية .
غير أن القوى السياسية الوطنية في كل بلد، عليها أن تعمل بالعقل والحكمة بما يحافظ على الوطن وعلى تماسك الدولة، و أن لا تنجر وراء العنف و التدمير، وتزيده تأججا من خلال التناحر والاقتتال، وإنما عليها أن تلتقي لا أن تشتت، وان تعمل باتجاه الإصلاح والبناء، على أسس أخلاقية وطنية، وليس انتقامية ثأرية ميكافيلية. وعليها أن تواجه القوى المضادة للإصلاح بالسلم لا بالحرب، و تدفع باتجاه تصحيح المسار ، للوصول إلى دولة المواطنة التي ترتكز إلى القانون والديمقراطية والمساواة والمشاركة،والقيم الأخلاقية والإنسانية النبيلة، و تستمد شرعية الحكم فيها من الإنجاز الذي ينبغي أن يتحقق .
إن الحكم على الحالة العربية بنوع من السوداوية ليس مفيدا و ليس له ما يبرره ، كما أن الافتراض بأن هناك مؤامرات عالمية تريد إعادة رسم الخرائط، وإعادة تقسيم الأقطار، كما كان الأمر عام 1916 بين “سايكس و بيكو”، هو افتراض فيه مبالغة كبيرة، وفيه هروب من مواجهة الواقع. فلا احد يستطيع تقسيم دولة قواها السياسية متوافقة و خالصة الإلتزام تجاه الوطن،ومجتمعها متماسك ومرتبط بإخلاص لدولته، لا يشعر الناس فيه بالظلم ولا يعانون القهر والقمع والفقر، ولا يعشش الفساد عنده في كل مكان. لان مثل هذا المجتمع يكون ولاؤه للدولة التي كل فرد فيها هو فيها مواطن أصيل  وشريك، وليس ولاؤه لجزء من الوطن ،أو جزء من المجتمع. تقسيم الدول من الخارج في هذه الحقبة من التاريخ لا يتم بالقوة الخارجية فقط، وإنما بعوامل التفكك والانقسام الداخلية الناشئة عن غياب دولة المواطنة وسيطرة دولة السلطة  . وهنا تعمل القوى الخارجية على محاولة الإفادة من كل مفاصل الضعف، فتعبث فيها، وتستعمل المال لان هناك بيئة فساد خصبة يبحث أطرافها عن المال أو الإنتقام ، وتستعمل الفرق والجماعات المذهبية والجهوية لان هناك عصبية وعصبيات متضادة، وتغري البسطاء بالوعود لان الفقر والإحباط يكتسح مساحات واسعة .
وفي النهاية، لا بد للشعوب أن تعاود تماسكها وتعيد بناء أوطانها، وتتوافق مع العصر، وتصنع لنفسها مستقبلا أفضل. إن الدور التاريخي للقيادات والمفكرين وأهل العلم والثقافة والسياسة أن يجعلوا خسائر التحول أقل ما يمكن، وزمن العبور إلى الإرتقاء والإستقرار والتقدم اقصر ما يستطاع .