التفعيل الاقتصادي… و الشركات العامة

تتأرجح استطلاعات الرأي بين 50% و 61% من الأردنيين يرون أن الوضع الاقتصادي لهذا العام هو أسوأ من العام الماضي. وهذا لا يحمل أي مفاجأة  إذا تذكرنا أن اقتصادات الدول النامية لا تتحسن تلقائيا، ولا تتقدم إلا من خلال برامج مصممة لرفع معدلات النمو بنسب كافية لا تقل عن 7% في بلد كالأردن و هو ما لم يتحقق لعدة سنوات. إذ يتطلب ذلك مشاريع انتاجية كبيرة ومتوسطة تأخذ دورها في الإنتاج، وفي توليد فرص العمل، وتخفيض المستوردات. وهذه هي المسؤولية العاجلة للحكومة.
ومن الخطوات الأولى والأقل كلفة في تنشيط الاقتصاد هي مساعدة الشركات المتعثرة، وحل مشكلات الصناعات التي تغلق أبوابها، أو تنتقل إلى بلدان أخرى، وكذلك إصلاح أوضاع الشركات المساهمة العامة، والتي يقترب عددها من (300) شركة توظف أكثر من (20) ألف عامل. والشركات العامة من جهة تمثل فرصة للإستثمار لمختلف المدخرين، ومن جهة ثانية تعمل مخزنا وحاضنة للخبرات المتخصصة، ومن جهة ثالثة يفترض أن تنبثق عنها العديد من المشاريع السلعية والخدمية الصغيرة والمتوسطة، سواء للتحضير لمدخلات الإنتاج أو للإفادة من المنتجات النهائية . وتعطي الدول اهتماماً خاصاً للشركات المساهمة العامة فتضعها في أطر قانونية وتنظيمية تحافظ على استمراريتها وعلى الأموال العاملة فيها دون أن تتدخل في إدارتها التي تتطلب المرونة الكاملة في الحركة واتخاذ القرار.
غير أن السنوات العشرين الماضية ، شهدت عدداً من الظواهر السلبية في الشركات العامة ناشئة عن تخلي الدولة عن دورها في الرقابة والشراكة والتنظيم والتوجيه، بسبب المفاهيم الخاطئة والمجزوءة للخصخصة ،وعن التأثر بموجة صناعة المال، والمبالغة في تسجيل الأرباح الوهمية على مستوى العالم. ولعل من أبرز ذلك ما يلي:
أولاً : المبالغة غير المقبولة في رواتب الإدارات العليا للشركات، وبمستويات تتعدى كثيراً المستويات الوطنية والأعراف الدولية، التى تضع معدلاًت تزيد أو تقل عن (10) أضعاف متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي و حسب مستوى الشركة موضوع البحث . إن المتفحص للتقارير السنوية للكثير من الشركات المساهمة العامة يصاب بدهشة وذهول . فتقرأ في تقرير شركة مساهمة لم تحقق أية أرباح على مدى عدة سنوات بأن رواتب  الإدارة العليا بمئات الآلاف من الدنانير. وشركة أخرى  تصل مكافأة رئيس مجلس الإدارة والمدير العام فقط إلى نصف رواتب الشركة بكاملها. ومدير آخر لشركة تحقق خسائر لعدة سنوات متتالية يتقاضى راتباً سنوياً يزيد عن ما تتقاضاه “انجيلا ميركل”، ومدير آخر يتعدى راتبه راتب “باراك أوباما”. عدا عن توظيف الأبناء  والأقارب في الإدارات العليا. وكل هذا يستدعي تدخل الحكومة باعتبار أموال  الشركات المساهمة العامة هي في حكم المال العام الذي يتطلب وضع  ضوابط قانونية وأدبية وأخلاقية، تربط بين المكافآت والرواتب من جهة وبين الأرباح والانجازات من  جهة ثانية، وبين مستويات الدخل الوطني من جهة ثالثة. كما لا بد وأن  يكون هناك سقف لا يجوز تجاوزه. ثانياً : استمرار الكثير من الشركات المساهمة العامة في حالة تعثر وتراكم للخسائر دون استعداد الشركة لاستقطاب رأس مال إضافي  والانطلاق من جديد، ودون استعداد الحكومة للتدخل في هذا،  والمساعدة في تجاوز التعثر بشكل مناسب . ثالثاً : وصول الأسهم في الكثير من الشركات إلى مستويات متدنية جداً دون وضع     ضوابط كافية تمنع تداول الأسهم  عند وصولها إلى مستوى معين مثل (40%) أو (30%) من القيمة الإسمية. وخطورة هذه المسألة أنها تتيح الفرصة للمضاربين بالأموال الساخنة الأجنبية  لكي يوقعوا الأذى بالمال الوطني.  رابعاً: إن اهتمام الحكومة بمتابعة “المشاريع التي يمكن أن تتفرع عن  الشركة الأم” ضئيل للغاية. إذ يفترض أن يكون لدى وزارة الصناعة والتجارة وهيئة تشجيع الاستثمار دراسات حول كل شركة تبين فيها تفاصيل المشاريع ذات العلاقة وان تتعاون الوزارة مع الشركة أو مع شركة أخرى لإنشاء مشاريع جديدة .
خامســاً: إن تواجد الشركات الكبيرة في المحافظات قليل باستثناء تلك الشركات التي تقوم على تعدين الخامات الطبيعية. و على الدولة أن تضع كافة التسهيلات والحوافر أمام الشركات للانتشار في المحافظات كجزء من برنامج تنمية وطني موسع. سادساً : لازال تعيين أعضاء مجالس الإدارة في الشركات المساهمة العامة يقوم في كثير من الأحيان على المنافع و الاسترضاء والمكافأة، وليس على المقدرة والأهلية لذلك الموقع على وجه التحديد . وهي ملاحظة لا تشكل انتقاصاً  من مقدرة أي مسئول، ولكن قد يكون اختياره لذلك الموقع في تلك الظروف غير مناسب . وهذا يفسر إلى  حد ما التراجع المتواصل في أداء كثير من الشركات بما فيها تلك التي تقوم الحكومة بتعيين ممثلين لها في مجالس إداراتها أو الإدارة العامة .
وأخيراً فإن أساسيات الإصلاح الاقتصادي تقتضي خطواته الأولى والإلزامية إصلاح ما هو قائم والبناء عليه، لا تركه يتآكل يوماً بعد يوم مما يشكك المستثمرون الجدد بمستقبل استثماراتهم. وهذا يتطلب أولاً : إصدار مدونة سلوك لإدارة الشركات المساهمة العامة تمنع هذه الإدارات من الانزلاق في الفساد أو المحسوبية أو ابتلاع أموال المساهمين من خلال رواتب غير مبررة أو انجازات غائبة. ثانياً :  المباشرة في تشكيل فرق خاص لدراسة أوضاع الشركات المتعثرة والمشاريع والصناعات المتراجعة واقتراح الحلول المناسبة لتنفيذها فورا فذلك أكبر جاذب للمستثمرين. ثالثاً: وضع دليل استثماري للشركات القائمة يبين المشاريع التي يمكن إقامتها كمشاريع جديدة، بالتعاون مع الحكومة ومستثمرون جدد ومنظمات تعاونية أو غير ذلك. رابعاً: إنشاء مجلس أعمال مشترك بين الحكومة والقطاع الخاص والقطاع الأهلي و الأكاديميا يعمل على تحفيز البيئة الاستثمارية والتنافسية و يقترح الحلول لمشكلاتها.
إن تحريك الاقتصاد الوطني وتحسين معدلات نموه يتطلب الكثير من المبادرة والجرأة والإبداع والتجديد في الأفكار والأساليب، والتعاون والمشاركة مع الآخرين.ما الذي يمنع الحكومة من العمل الذي طال انتظاره ؟  ما الذي يجعلها شديدة الولع بالكلام ؟ مغرمة بالاقتراض؟، شديدة التردد إزاء الإنتاج؟ وبعيدة عن المشاريع التي يمكن أن تحدث تغييراً؟ لا أحد يعرف…إن مستقبلا أكثر ازدهاراً و اقتصادا أعلى فاعلية يتطلبان التخلص من المواقف المترددة، والرواسب المعيقة، ويستحق انطلاقة جديدة من الحكومة والقطاع الخاص من خلال الإصلاح والبناء على ماهو قائم و الإضافة إليه.