القدس والتهويد… بين الخديعة والاعتذار

لعل ما يجري في فلسطين بشكل عام ، وفي القدس بشكل خاص، دليل قاطع على استمرار إسرائيل في التشبث بالمقولات اليهودية الدينية الزائفة، كغطاء للعملية الاستعمارية لفلسطين. و هي التي لم تتوقف لحظة منذ بدء الهجرة اليهودية إليها قبل مئة عام . كل ذلك في بحر من الخداع والتضليل يمارسه القادة الإسرائيليون و في مقدمتهم نتنياهو وليبرمان، اللذان يمثلان تياراً إسرائيليا واسعا لا يؤمن بالسلام، ولا بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم على ترابهم الوطني، ولا يؤمن بالقانون الدولي ولا بالوصاية الأردنية على القدس بموجب معاهدة السلام، ولا يرى في المنطقة إلا مسرحاً للتوسع الاستعماري الاستيطاني، في زمن انشغل العالم فيه بقضايا أخرى. إنه الاستعمار الوحيد في العالم في هذا القرن.
وبكل لؤم ومكر وحقد يعتبر اليمين الإسرائيلي أن الفترة الحالية هي الفرصة الذهبية لتوجيه الضربة القاصمة للقدس أولاً، ولكامل فلسطين ثانياً. فحالة التفكك العربية، وانهيار بعض الدول الوطنية، والحروب الطائفية، و الإرهاب والتطرف، وطغيان ثقافة التكفير على التنوير، والإخفاقات السياسية والإقتصادية، وعجز القوى السياسية العربية أن يكون لها دور فاعل،و استمرار الانقسام الفلسطيني، كل ذلك بعمل في صالح المشروع الصهيوني العنصري الاحتلالي البشع.
لقد أخذ الأردن موقفاً سياسياً حازماً إزاء المحاولات الإسرائيلية لفرض تقسيم على الأقصى، وفرض هيمنة إسرائيلية على الأماكن المقدسة خلافاً لمعاهدة السلام . الأمر الذي اضطر نتنياهو إلى محادثة الملك عبد الله لأكثر من مرة، والتأكيد على عدم نية إسرائيل تغيير الواقع الراهن في الأقصى. ورغم ذلك، فقد استمرت الحكومة الإسرائيلية في تكثيف انتشارها في البلدة القديمة، ومنع الفلسطينيين من دخول الأماكن المقدسة، والتوسع في هدم المنازل الفلسطينية والضغط عليهم لبيع أملاكهم . ومن المتوقع من نتنياهو خلال الفترة القصيرة القادمة، أن يضغط على اليهود المتعصبين للتخفيف من الانتهاك السافر ومن دخول المسجد الأقصى . لكنه في عين الوقت سوف يضاعف من الإستيطان في كل مكان، و يغض الطرف عن استمرار أعمال التنقيب والحفر حول المسجد، وحول تكثيف اليهود في القدس، وفي كل موقع يتم شراؤه أو اقتحامه. لقد كانت الأحداث الماضية “ بالون” اختبار من نتنياهو وليبرمان لقياس نوعية وحجم رد الفعل العربي والإسلامي إزاء اقتحام الأقصى. فكان الرد العربي والإسلامي باهتا وخافتا بل غائباً الى حد كبير، وأقل بكثير من رد الفعل إزاء إحداث أخرى أقل أهمية مثل رسم الكاريكاتير . حتى أن لجنة القدس وهي في مكان بعيد في المغرب لم تدع إلى اجتماع طارئ . ولم تدع الجامعة العربية إلى سلسلة من الإجراءات العربية المشتركة. لقد بين بالون الاختبار أن القوى الإسلامية مشغولة بحروبها للوصول إلى السلطة في هذا البلد أو ذاك، أو بتفجير حافلة ركاب وسط مدينة عربية، أو اقتحام مدرسة أو تفجير جامعة، أو إصدار فتاوى الجزية والتكفير والسبي والرق من جديد .  و هي للأسف وبسبب الإخفاق في إصلاح و تحديث الفكر الديني، المنشود منذ قرون، لا ترى الجهاد إلا بقتل المسلمين لأبناء وبنات أوطانهم، ولا يعنيها الأقصى أو القدس بقدر ما تعنيها السلطة والتحكم، والكلام الذي لا يرافقه عمل جاد. وما يجري في غزة من إفشال للتوافق الوطني نموذج يبعث على المرارة .
إن الجهود الدبلوماسية  الحثيثة التي يقوم بها الأردن، تتطلب دعماً أو مساندة قوية من العرب ومن المسلمين. وتتطلب طرق جميع الأبواب الدولية القانونية مثل محكمة العدل الدولية والسياسية مثل: مجلس الأمن والأمم المتحدة والثقافية مثل اليونسكو ومنظمات حقوق الإنسان ومنظمة الأمم المتحدة  للاجئين، وغيرها .
القدس وفلسطين بحاجة إلى الأعمال، وبحاجة إلى العقل الرشيد والنفس الطويل للعمل على المحاور الآتية: أولاً : مساعدة أهلنا في فلسطين عامة، وفي القدس خاصة  على البقاء والصمود في بيوتهم أمام جميع الضغوطات والحيل الإسرائيلية و تقديم الدعم المالي والمعنوي. وهذا يتطلب إنشاء صندوق عربي شعبي لجميع الأموال وتمكين المقدسيين من الصمود . وثانياً : دعم ومؤازرة منظمات المجتمع المدني في القدس على تقديم خدماتها للقدس وللمقدسيين في شتى النشاطات والاحتياجات وهنا يمكن لأي منظمة مجتمع مدني أن تكون نقطة التجمع والارتكاز في هذا العمل . ثالثاً: تمكين المقدسيين  من تعليم أبنائهم وبناتهم من خلال البعثات المحلية والإقليمية والدولية وتغطية نفقات الدراسة . رابعاً : اعتماد عدد من منظمات المجتمع المدني المقدسية لمساعدة المقدسيين على صيانة بيوتهم وأماكنهم المقدسة حتى لا تصبح آيلة للسقوط فتدخل إسرائيل لإسقاطها وتدميرها. خامساً : أن يشكل اتحاد المحامين العرب أو غيره من التجمعات الحقوقية لجنة قانونية للقدس تقدم المشورة القانونية للمقدسيين وللسلطة الوطنية من جهة، وترفع قضايا ضد إسرائيل في المحافل الدولية من جهة أخرى، وبالتعاون مع قانونيين أجانب. وتقدم الجامعة العربية والأقطار العربية المتوفر لديها المال المساعدة لذلك. سادساً : تحريك حملة شعبية تشارك فيها الأحزاب        ومنظمات المجتمع المدني و الجاليات العربية لمقاطعة كل ما هو إسرائيلي ومقاطعة الشركات الدولية الكبرى المتعاملة مع إسرائيل و بشكل خاص المستوطنات.  ودعم الجماعات والشخصيات والشركات المقاطعة للمنتجات الإسرائيلية في أوروبا وأمريكا ودول العالم. سابعاً : توثيق حالة التمييز العرقي والديني والإنساني الذي تمارسه إسرائيل خلافاً للقانون الدولي، ويشارك في التوثيق، الكتاب والمؤرخون والفنانون والمصورون والإعلاميون. ووضع هذه المنتجات على شكل كتب ومجلات ومعارض دائمة ومتحركة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي . ثامناً : استمرار الضغط على إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية لإنهاء حصار غزة، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي بكامله والاعتراف بدولة فلسطين وعاصمتها القدس .
إن أوجه العمل في هذا المجال لا حصر لها، ولكنها تتطلب الضمائر الحية والعقول الذكية، والإرادات الوطنية المخلصة. فالقدس إذا لم تسعفها الخطط والبرامج العملية العاجلة، تتحرك نحو أيام بالغة السواد والظلمة. فهل تترك القوى السياسية صراعاتها العبثية، ويتحرك الجميع لبناء مستقبل جديد مضيء وإنساني للقدس وفلسطين ؟.