الصحافة والحكومة…. علاقة تتطلب التغيير

بداية لا بد من التنويه بأن الصحافة ليست حديثة العهد في الأردن، فقد بدأت مع نشوء الإمارة عام 1921 فكانت جريدة “صوت الحق” ثم جريدة “الأردن”.و تنامت الصحافة الرصينة واحتلت موقعاً متميزاً في ضمير المجتمع الأردني، باعتبارها السلطة الرابعة، والتي كانت ولا تزال تنقل الخبر، وتكشف مواقع الخلل، وتحمل صوت الرأي العام. وتطور الأمر بالشكل والمضمون الصحفي إلى الإعلام المرئي والمسموع والافتراضي و الالكتروني والجوال. حيث وصلت إلى مستويات من الانتشار والسرعة والتوغل والقدرة على تتبع  تفاصيل الأحداث إلى حدود لم تكن تخطر على بال. وهذا من شأنه أن يضيف إلى المؤسسة الصحفية بمنتجاتها الالكترونية والورقية أهمية خاصة كما هو الحال في جميع أنحاء العالم.
و كان موقف الحكومات من المؤسسات الصحفية قلقا وحذراً، وفي نفس الوقت جاذباً وضاغطاً… وهي علاقات معقدة من كلا الجانبين. فالحرية والرقابة ،و الإفصاح والكتمان، والحقيقة و نصفها، والنقد والإشادة، والترويج و الإعلان، والسياسة والمال، والإدارة والصدق والمجاملة، كلها تسير جنبا إلى جنب. ومن جهة ثالثة،  فحق الحصول على المعلومة أصبح جزءا من حقوق الإنسان، ومؤشراً على حداثية الدولة وديمقراطيتها، وواحدة من آليات الإصلاح، وتنوير الرأي العام. ومقابل ذلك تعاظمت  مسؤولية التعامل مع المعلومة، ومراعاة  المصالح العامة، والدفاع بعقل و علم عن القضايا والتوجهات الوطنية، و احترام حقوق الآخرين. وهذه كلها مسائل ،حتى الآن، لا زالت بحاجة إلى تطوير مشترك، حتى يصل فيها الطرفان إلى معادلة مستقرة ومقنعة يحافظ فيها على الحرية والمسؤولية ودور الصحافة كسلطة رابعة.
و شأن الكثير من القضايا المعقدة وجدت الدولة ، وفي فترة سابقة ،أن أسهل طريقة للتعامل مع الصحافة والإعلام هي السيطرة عليها. وهذا لا يتطلب الكثير من التغيير في السلوكيات والموقف والالتزامات، ولا يتطلب تطوير مفاهيم جديدة للعمل ،ولذا عملت على الدخول إلى الصحافة من الداخل.فتملكت مؤسسة الضمان الاجتماعي النصيب الأكبر في أسهم مؤسسة الرأي و كذلك الدستور وبالتالي أصبح لها “القوة في التأثير بشكل ناعم وحضاري” تطور أخيراً إلى التدخل في إدارة شؤون هذه المؤسسات. وهنا دخلت  في إشكاليات معقدة.
أولاً: إذا كانت مؤسسة الضمان الاجتماعي مؤتمنة على إدارة أموال الضمان ،وهي ملك للشعب وليس للحكومة، فلا يجوز لهذه المؤسسة أن تستثمر أموالها إلا فيما هو مجدي اقتصادياً ومولدً للدخل. وهنا لا ينبغي أن تخضع أموال المواطنين” للرغبات السياسية المتغيرة” للحكومات. فذلك إخلال بالدور الأساسي للإعلام القائم على الحرية والتنوير.و غالبا ما يؤدي إلى افشال المؤسسة وبالتالي خسارة أموال الضمان. ثانياً: ليس من الحكمة ولا المصلحة الوطنية أن تذهب الحكومة إلى التدخل في شأن المؤسسات  بالطلب إلى مؤسسة الضمان تعيين هذا أو ذاك لأن إدارة المؤسسة الصحفية في النهاية هي عملية اقتصادية ومالية وفنية ومهنية متخصصة وليست عملية سياسية.
ثالثاً: لقد بالغت الحكومات المتعاقبة بتدخلاتها في تعيين أعضاء المجالس و الإداريين والمهنيين بل والكتاب والموظفين وبعضهم برواتب ومكافآت وعقود غير اعتيادية، ناهيك عن ضغوط متواصلة لتعيينات هنا وهناك. الأمر الذي أثقل تلك المؤسسات بإعداد كبيرة من الموظفين وباستنزاف للأموال دون مكسب واضح.
رابعاً: من حق الحكومة أن يكون لها إعلامها الورقي و الالكتروني، ولكن ذلك يجب أن يكون واضحا للناس ومعروفا بكل شفافية. والتحدي هو كيفية اكتساب ثقة المواطن القارئ وكيفية تحقيق التميز و المصداقية.
خامساً: لم تعد الدول ولا الحكومات الديموقراطية بحاجة إلى دعاية وترويج كما كان الأمر قبل (30) أو (40) سنة، فذلك قد أثبت عدم جدواه. انه لا يغير من حالة فقر ولا يلغي بطالة ولا يمنح حرية. وإنما أصبحت الدول والحكومات و الأحزاب في اشد حاجة إلى إقناع المواطن، وكسب ثقته ببرامجها الحقيقية، وتغيير الأحوال إلى الأفضل.
سادساً: انه في زمن الشبكات الالكترونية والاتصالات العولمية لم تعد السيطرة على هذه الصحيفة أو الضغط على ذلك  الموقع الكتروني يفيد شيئاً. فالمواطن العادي و شباب الحراكات وأفراد القوى السياسية لهم مواقعهم الالكترونية، وصفحاتهم وحساباتهم، على تويتر وفيس بوك وغير ذلك. وبالتالي ينبغي توجيه جهد الحكومة من أجل التغيير بعيداً عن التدخل وليترك الأمر لكل مؤسسة لتعالج أمورها بنفسها.
سابعاً: ومن منظور آخر فإن المؤسسات الصحفية هذه هي مؤسسات وطنية بالمفهوم الاقتصادي المالي، ومؤسسات وطنية أيضا بالمفهوم الإعلامي والثقافي. وبالتالي فإن أي تعثر أو خلل يقع فيها ينبغي أن يكون محل اهتمام الحكومة لمساعدتها على الخروج من العثرة التي تقع فيها،تماما كما ينبغي على الحكومة الاهتمام بالشركات المتعثرة جميعاً.
ثامنا: إن وجود مؤسسات صحفية وطنية عريقة مستقلة و مستنيرة، كما هي الأهرام في مصر أو التايمز في بريطانيا، يمثل ضرورة إعلامية، ومكسبا وطنيا، وصرحا عتيدا للحرية والثقافة  والتنوير ينبغي عدم إفساد مهمته بالتداخلات غير الحصيفة.
تاسعاً: لقد ثبت تاريخياً وبالدليل القاطع أن تسييس إدارة المؤسسات الاقتصادية والمهنية المتخصصة وتحويلها إلى مراكز توظيف وإرضاء و تنفيع وتوجيه أدى إلى فشل هذه المؤسسات، ودفع في أحيان عديدة إلى بيعها للمستثمر الأجنبي، أو التخلي عنها بأرخص الأثمان. وهذا  تتحمل مسؤوليته الحكومة و إدارة الضمان الاجتماعي. ولا ينبغي أن يتكرر في عهد الإصلاح والتغيير والشفافية والمساءلة.
وأخيراً، فإن الجمع بين التدخل المعلن والخفي، والسياسي والإداري، والخلط بين المالي والصحافي، والمهني والرسمي ، كل ذلك يؤدي إلى التراجع والتعثر.
إن الوطن بحاجة إلى مؤسسات صحفية مهنية قوية وراسخة وقادرة على إنتاج الإعلام بأفضل صورة كما هي المؤسسات المماثلة في العالم. وهذا يتطلب أن تنسحب الحكومة من التدخل بكل أشكاله و ألوانه و وسطائه و وكلائه، وأن تعطي الفرصة للمؤسسات كي تعمل بحريتها وبكامل جهدها وإبداعها، وبالتالي تتحمل مسؤولية نجاحها وفشلها، وتكسب ثقة المواطنين أو تخسرها. و على الحكومة  أن “تتوافق على خطة خروج مالي و إداري آمن من الأزمة للرأي والدستور “ تكون بداية لتغيير جاد و عميق،  فهي التي تتحمل المسؤولية. إن الخلط والارتباك والتباطؤ في إصلاح العلاقة مع الصحافة لا يخدم الحاضر، ولا  يمهد للمستقبل الأفضل.