الجامعات والتخصصات.. وسوق العمل

أصدر ديوان الخدمة المدنية قائمة بالتخصصات الجامعية التي ليس عليها طلب ، وقسمها الى تخصصات مشبعة وأخرى راكدة. وكانت نصيحة الديوان لطلبة الثانوية العامة الابتعاد عن التخصصات المشبعة والراكدة، والتوجه نحو التخصصات المطلوبة، وهي في رأينا قليلة تماما في ظل الركود الاقتصاد العالمي والاقليمي والوطني نتيجة لجائحة كورونا وأسباب أخرى.
وقد اقترح البعض إغلاق التخصصات التي ليس عليها طلب مثل التاريخ والآثار والتربية والتسويق وغير ذلك. وحقيقة الأمر أن المنطق الذي يتم التعامل فيه مع التعليم الجامعي بحاجة الى مراجعة جذرية سواء من الدولة ككل، أو ديوان الخدمة المدنية، أو الجامعات، وذلك في إطار الأساسيات التالية : أولاً: إن التعليم حق إنساني وطني، وللمواطن، وهنا الطالب، أن يختار التخصص الذي يريد انطلاقا من ميوله وامكاناته وشغفه واهتماماته، حتى تكون له فرصة حقيقية للنجاح والتميز والإبداع. وليس من المتوقع أبدا أن يبدع من دخل تخصصا ليس له أولها رغبة فيه. ثانيا: إن دور الجامعة الأساسي يتمثل في بناء شخصية الطالب علميا وتفكيريا وسلوكيا، واعداده من خلال التخصص المتطور مع مستجدات المرحلة، والمهارات اللامنهجية التي يكتسبها أثناء الدراسة، ليكون قادرا على صنع مستقبله بالاتجاه الذي يريد. وهذا المستقبل ليس بالضرورة أن يكون في ذات التخصص الذي درسه في الجامعة . فالاحصاءات الدولية تشير إلى أن 75 % من دارسي الهندسة والعلوم والرياضيات والتكنولوجيا لا يعملون في تخصصاتهم، وانما ذات الدراسة لأنها تركز على الجوانب العقلية والعلمية والإبداعية تؤهلهم لوظائف عديدة، سواء في الإدارة أو الأعمال أوالتطوير..الخ. ثالثاً : على الجامعة أن تضيف الى شخصية الطالب وتعزز قدرته على بناء واطلاق المشروع الذي يحلم به من خلال مساقات الريادية والمشاريع الصغيرة، والإدارة والاقتصاد الجزئي والهندسة العكسية في جميع التخصصات . وهنا يكون التخصص مجرد منصة انطلاق وليس صندوق احتباس. رابعاً : وحتى يتحقق ذلك فلا بد للجامعات أن تراعي متطلبات التفاعل والتأهيل والنموذج والتدريب، من خلال عدم تحشيد الطلبة بالمئات في قاعة المحاضرات كما هو الحال في الجامعات الرسمية في المنطقة العربية وفي بلدنا العزيز. خامساً : إن على الدولة أن تدرك أن سوق العمل متغير، وأن الإفراط في الاستيراد يغلق بالضرورة الباب أمام فرص العمل. وكل 30 ألف دولار من المستوردات تغلق فرصة عمل وطنية. سادساً : وعلى الإدارة الحكومية أن تصل إلى قرار نهائي بأن مشكلة الأعداد الكبيرة المتوجهة نحو التعليم الجامعي لا تستطيع التغلب عليها من خلال تحشيد الطلبة في الجامعات الرسمية واكتظاظهم في القاعات والمختبرات دون ضوابط عددية ونوعية معلنة لكل تخصص. إذ أن الاكتظاظ هو دائما على حساب نوعية التعليم ونوعية المهارات ومستوى تطوير شخصية الطالب. ذلك أن كلفة تدني نوعية التعليم على الاقتصاد الوطني والمجتمع بسبب الازدحام عشرات الأضعاف من الكلفة الاقتصادية المباشرة للتعليم الصحيح. سابعا إن العالم أجمع اتجه نحو الجامعات الخاصة لأن معظم الدول لا تتمكن من الاستجابة للطلب على التعليم العالي، وبذا تأخذ الخاصة دورا فاعلاً في حل مشكلة المقاعد الجامعية وتوزيع الطلبة وفق شروط الاعتماد اللازمة وتكون هذه الجامعات شريكا مكافئا للجامعات الرسمية والقطاعات الانتاجية المختلفة ومصدرا للتنوع والأنماط الجديدة، وتقوم بالبحث والتطوير وتشق لنفسها مكانة مرموقة، سواء كانت في دول ضخمة مثل الهند(361) جامعة خاصة أو المانيا 83 أو النمسا 116 أو سنغافورة 4 جامعات خاصة. وبالتالي لم يعد من سبب لاكتظاظ للطلبة في جامعات تلك الدول. ثامنا:وإذا أرادت الدولة تقديم التعليم المجاني أو المنخفض الكلفة للطلبة لأعداد أكبر فإنها، تتعاقد مع الجامعات الخاصة فتوفد الطلبة اليها وفق ترتيبات يتم التوافق عليها. ثامنا: إن البطالة ليست بسبب ما يسمى التخصصات المشبعة أو الراكدة، وإنما هي بسبب غياب التصنيع وضيق سوق العمل والاعتماد المفرط على الاستيراد من جهة، وتراجع نوعية التعليم وغياب التركيز على المهارات، والتمسك بالنمطية والقولبة السائدة في مؤسساته.
وفي الأردن لدينا 20 جامعة وكلية جامعية خاصة تلتزم جميعها بمتطلبات الاعتماد وشروطه، ولكن الرغبة في استرضاء الجمهور تدفع الحكومة للافراط في القبول في الجامعات الرسمية بكل الازدحامات التي نراها والتي لا تتيح للطالب في أغلب الأحيان الافادة من التعليم الجامعي كما ينبغي، حتى يكون قادرا على صنع مستقبله كما يريد معتمدا على نفسه ومهاراته وليس الوظيفة الحكومية غير المتاحة. لقد تعدت استثمارات الأردنيين في التعليم الخاص الجامعي 1100 مليون دينار وتضم الجامعات الخاصة أكثر من 75 ألف طالب، وتعمل سنويا بما يزيد عن 250 مليون دينار وتضم 3700 من الأساتذة وما يعادل الرقم من الإداريين إضافة إلى مزودي الخدمات، وتدفع ضرائب بما يعادل عشرات الملايين من الدنانير،مما يجعل الجامعات الخاصة ركنا اقتصاديا وعلميا تقتضي المصلحة الوطنية استثماره في شتى الجوانب التعليمية والعلمية والثقافية والتنويرية. وهذا هو التحدي الحقيقي أمام الإدارة ووزارة التعليم العالي بشكل خاص.
إن تحشيد الطلبة في الجامعات الرسمية والبرامج الموازية ليست الطريقة الصحيحة لحل مشكلات التمويل للطلبة أو الجامعات نفسها . فالطريق الصحيح لذلك أن يتم انشاء “ بنك متخصص “ أو” نافذة متخصصة “ في البنوك القائمة لتمويل التعليم، وتقديم قروض للطلبة، ليكون التسديد بعد العمل. هذا إضافة إلى إنشاء الصناديق والوقفيات والتعاقد مع الجامعات جميعها كل حسب استطاعاتها المحددة في متطلبات الاعتماد، ومحاسبة كل جامعة على الأداء ونوعية التعليم، إضافة إلى التعاقد معها للبحث في المشكلات القائمة وايجاد وتطوير الحلول لها: ابتداء من المياه والطاقة والزراعة والتصحر، ومرورا بالبطالة والثقافة المجتمعية، وانتهاء بحل المشكلات التي تعترض القطاعات الإنتاجية والخدمية جميعها من خلال التشارك والدعم المتبادل ..
إن الجامعات بكل تخصصاتها وأكاديميها تمثل عقل الدولة ونافذة المستقبل. وكذلك فإن الحاضر يحتمل تطوير الحلول للنهوض بالتعليم ومساعدة الطالب في مواجهة كلفة التعليم في الجامعات، ولكن المستقبل لا يحتمل أبدا تدني نوعية التعليم وجموده، ولا غياب المهارات والممارسة، ولا إضاعة الفرص لبناء العقل الريادي المبدع، بسبب الاكتظاظ وتجاوز المعايير.