الأمن الغذائي.. تحديات مستقبلية

في اجتماع القمة بين الأردن ومصر والعراق قبل عدة أيام، أكد الملك عبدالله الثاني على واحد من أكبر التحديات التي تواجه العالم العربيإ فإضافة إلى الحل العادل للقضية الفلسطينية وانتهاء الاحتلال الإسرائيلي البغيض، واستعادة المنطقة للاستقرار بعد إنهاء النزاعات الداخلية، وضرورة التعاون والتنسيق الاقتصادي العربي، وخاصة بين الأردن ومصر والعراق، هناك تحدي الأمن الغذائي، وهي مسألة بالغة التعقيد والخطورة نظرا لضعف إنتاج الغذاء في جميع الأقطار العربية. وقد وصل العجز الغذائي العربي في العام 2019 الى ما يزيد على (35) مليار دولار أي بواقع (875) دولارا / فرد سنويا. إن جزءا كبيرا من هذا العجز يقع في المواد الأساسية وخاصة البروتينات النباتية والحيوانية والزيوت والحبوب الأساسية كالقمح والشعير. إن المعضلة الكبرى التي تواجه الأقطار العربية ونحن في مقدمتها: أولا: شح المياه الطبيعية، وسيطرة الدول الإقليمية، بسبب الضعف والتشرذم العربي، على الجزء الكبير من منابع المياه التي تجري فيها الأنهار، سواء كان ذلك من طرف تركيا أو إيران أو إسرائيل أو أثيوبيا. ثانيا: تقلص المساحات الزراعية بسبب الزحف العمراني غير المنضبط على الأراضي الزراعية، والإهمال والتصحر، وتفتيت الملكية، وغياب مشاريع استصلاح أراض جديدة بمصادر مياه كافية. ثالثا: التغيرات المناخية بكل ما تحمله من ارتفاع في درجات الحرارة وتناقص في معدلات الأمطار السنوية، وطول فترات الجفاف. رابعا: غياب استراتيجيات وطنية لكل دولة، وأخرى بين الدول العربية المتجاورة، أولا: لوقف التصحر، والتعاون العملي المبرمج والممول للتغلب على آثار التغيرات المناخية، وثانيا: لإنتاج الغذاء من خلال صناعات متقدمة وتكنولوجيات متطورة، دون انتظار الحكومات للمستثمرين ليبدو اهتمامهم بمشاريع معينة.
وبالنسبة لنا في الأردن، فالأمر أكثر حرجا وتحديا، وهذا ما دفع الملك لاعتبار الأمن الغذائي التحدي الأكبر لعام 2021. وحسب الدراسات والإحصاءات المتاحة والبيانات التي وردت في تقرير “المراجعة الاستراتيجية لتحقيق هدف التنمية المستدامة بإنهاء الجوع العام 2030” الصادر عن المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا، فإن الأردن: أولا: يستورد ما يقرب من (%98) من احتياجاته الغذائية، في حين تستهلك الزراعة (%51) من مجمل استهلاك المياه. ثانيا: يستضيف الأردن (3) ملايين لاجئ ووافد ومقيم، أو (35%) من السكان، بكل ما يستلزم هذا الحجم من خدمات الصحة والتعليم، ومياه وغذاء ينبغي توفره في الأسواق. ثالثا: إن كلفة الغذاء في الأردن، وبسبب الاستيراد المفرط، مرتفعة تماما وتصل إلى ما يقرب من (%40) من متوسط دخل الفرد، وقد تفاقم الوضع تماما بعد جائحة كورونا. وتقترب عدة دول عربية من هذه النسبة (تونس، الجزائر، المغرب)، في حين أنها أقل من ذلك بكثير في الدول المنتجة للغذاء، مثل تركيا والدول الأوروبية والصين والهند وغيرها. رابعا: إن الاكتفاء الذاتي لدينا يكاد ينحصر في الخضراوات والحليب والبيض، في حين أنه ضعيف تماما في الأساسيات الأخرى كالحبوب (%3)، والبقوليات (%3)، واللحوم (%18)، والدواجن (%75)، والأسماك (%36).
ولابد من الاعتراف هنا بأن هذا الضعف في الاكتفاء الذاتي، وتواضع إنتاج الغذاء، لا يعود لأسباب قاهرة لا حلول لها، بقدر ما يعود إلى سياسات خاطئة تراكمت نتائجها سنة بعد سنة، أهملت فيها الزراعة كقطاع استراتيجي على فترات طويلة، والى افتراضات واهمة لدى بعض المسؤولين والاقتصاديين، مؤداها أن شح المياه سببا كافيا للابتعاد عن الزراعة. وقد غاب عن عقل الدولة وسياساتها أن العلم الحديث والتكنولوجيا المتطورة وتجارب الامم من شأنها أن تساعد على التغلب على كل هذه الصعاب.
وفي ظروفنا الصعبة، وهي كذلك في مصر والعراق، فإن تحقيق الأمن الغذائي يقوم على خمس ركائز أساسية وهي: المياه، والطاقة، والعلوم والتكنولوجيا، ومكننة الزراعة، وتصنيع الزراعة. وقد فتحت الطاقة المتجددة، و بشكل خاص الطاقة الشمسية والتي أصبحت متاحة بتكاليف هي الأقل كلفة على الإطلاق، فتحت الباب واسعا للتغلب على الكلفة المرتفعة للطاقة، ومن ثم وضع حلول تراكمية لأزمة المياه. ونؤكد هنا على انه لا يوجد حل سحري ولا مشروع واحد من شأنه أن يحل أزمة المياه، وإنما الحل تراكمي، بمعنى العمل على اقامة عشرات أو مئات المشاريع المنوعة من خلال مداخل متعددة. تبدأ هذه المداخل بتحلية المياه بالطاقة الشمسية، وتمتد الى التوسع في الحصاد المائي والآبار الفردية والجمعية وإنشاء السدود الصغيرة والسدود الترابية، وإعادة التدوير للمياه باستخدام المياه الرمادية بعد معالجتها، وبرنامج وطني مستقر للاستمطار، وتوليد المياه من الهواء، والزراعة المائية، وغير ذلك الكثير، وهذا يتطلب منا وطنيا التشبيك الجاد والمساءل، والتعاون الحقيقي وليس الشكلي بين المؤسسات ذات العلاقة. وعلى الدول الثلاث أن تتعاون في هذا المجال من خلال مشاريع حقيقية محددة. كما أن رفع مستوى مدخلات العلم والتكنولوجيا في الزراعة وتأهيل العمالة الماهرة، بحاجة إلى برنامج وطني تشارك فيه الجامعات والباحثون ومراكز الأبحاث بقوة واستدامة. فالحاجة ملحة لتطوير السلالات الزراعية لتصبح أكثر تحملا للجفاف والملوحة، والمنظومات الزراعية والبيئية لتصبح أكثر قدرة على وقف التصحر، واستخدام التكنولوجيا المحوسبة لتقليل الفاقد من المياه إلى الحد الأدنى.
إن مكننة الزراعة بالمفهوم الواسع والمعمق بحاجة إلى برنامج وطني ليرتفع دليل المكننة خلال 5 سنوات من (%25) كما هو اليوم إلى (%90)، بكل ما يعني ذلك من زيادة الإنتاج والإنتاجية وإقبال الشباب على العمل في الزراعة الممكننة، بدلا من الترفع عن الزراعة البسيطة الحالية. وأخيرا فإن تصنيع الزراعة سواء لمدخلات الإنتاج من أسمدة وأدوية وسلالات أو مخرجات الإنتاج من خلال الصناعات الغذائية المتطورة يمثل الطريق الصحيح للمحافظة على الإنتاج من جهة وتخفيض كلفته من جهة ثانية.
إن متوسط الإنتاجية للعامل الزراعي في العالم العربي لا تتعدى (8) آلاف دولار / سنويا لكل عامل مقابل 50 ألفا في اوروبا و(90) ألف دولار في أميركا وغيرها. والسبب في هذا الفارق الضخم هو مدخلات العلم والتكنولوجيا في كل تفاصيل العمل الزراعي: ابتداء من الهندسة الجينية (الوراثية) وانتهاء باستخدام طائرات الـ”درون” لتقييم احتياج كل نبتة من الماء.
لدينا كليات زراعة وهندسة وعلوم، ولدينا علماء وخبراء وخريجون. فهل وصلت الادارة الرسمية الى الاقتناع بخطورة الامن الغذائي كما يراه الملك؟ بل وكما يشعر به كل مواطن؟ وهل لدينا الارادة والإدارة لمواجهة تحدي أمن الغذاء؟ تلك هي المسألة.