التوسع في الضـرائب… والطريق المسدود

في كل مرة تذهب الحكومة إلى سد العجز لديها بفرض مزيد من الضرائب، يكثر الحديث عن صندوق النقد الدولي وشروطه وإملاءاته … وهذا كله حديث لا يفيد لأن “من يعتمد على الإقتراض عليه أن يقنع المقرض بقدرته على السداد ويقبل شروطه” …
منذ أكثر من ربع قرن، حين بدأ ما يسمى “برنامج التصحيح الاقتصادي مع البنك الدولي والصندوق، كان ما تم الاتفاق عليه هو تعديلات أو تكييفات مالية Financial Adjustments ، وليس تصحيحاً اقتصادياً بالمعنى العلمي الذي يشمل “الانتاج والاستثمار والعمل والمشاريع”. ولكن الإدارة وجدت بالترجمة المحرفة طريقا سهلاً لاقناع المواطنين بسلامة توجهاتها.
ومنذ ذلك الوقت اعتمدت الحكومات المتعاقبة مبدأ التركيز على الجانب المالي، مع اهمال كامل للجانب الإقتصادي بحجة أننا نعمل في إطار إقتصاد السوق. بل ومن خلال برامج الخصخصة غير المدروسة وغير الوطنية، أوقعت الإدارات أذى كبيراً بالإقتصاد الوطني، وراحت بدون قصد أو وعي تحاربه وتضغط عليه من خلال الانفتاح المفرط غير الحكيم على الاستيراد لكل شيء، حتى وصلت مستورداتنا 16 مليار دينار وأصبح المنتج الوطني لا مكان له الا بكل صعوبة، نتيجة المنافسة غير العادلة، إضافة إلى أن بعض الدول تفرض شروطاً على دخول المنتج الأردني اليها كشرط مكمل للمساعدات، في حين تدخل سلعها إلى الأردن دون اي شروط.
ولعل الاتحاد الأوروبي نموذجاً على ذلك. فهو يشترط حاليا نسبة 25% من العمالة السورية للسلعة المراد تصديرها. وهذا ولد مزيدا من الضغوط على فرص العمل أمام الأردنيين وفاقم البطالة حتى وصلت اليوم 18.4%، وفي بعض المحافظات 26%.
اتجهت الحكومة المستقيلة كمن سبقها إلى فرض مزيد من الضرائب، والقاعدة الاقتصادية المعروفة أن زيادة الضرائب ترفع الأسعار على الجميع من خلال تشابك السلع والخدمات، وتؤزم الإقتصاد، وتؤذي محدودي الدخل، وتضغط على المواطن والمستثمر والريادي والمدخر ولا تلبي الإحتياجات الحكومية إلا مؤقتا.
فالضرائب اجراء يؤدي إلى تراجع كل الأطراف، ومن ثم تأخذ العائدات الضريبية بالتناقص، فترجع الحكومة إلى نقطة البداية، والى إنهاك كل من الاقتصاد والمجتمع في سلسلة تستمر حتى نقطة الانكسار.
لقد آن للحكومة بإداراتها المختلفة أن تدرك بيقين الحقائق التالية:
أولاً: إن زمن المساعدات والمنح والهبات الاقليمية والدولية قد ولى إلى غير رجعة، الا بثمن سياسي باهظ لا نرضاه أبداً.
ثانياً : إن الاقتصاد الوطني لا يصنعه ولا يطوره الا المواطنون من خلال المشاريع الانتاجية الحقيقية التي تعود ملكيتها لمواطنين، ليس من باب التعصب، ولكن حتى تبقى عائدات تلك المشاريع في الوطن نفسه.
ثالثاً : إن الضرائب في غياب الشفافية، والمشاركة الحقيقية في القرار، والتمثيل الديموقراطي المؤسسي الصحيح تؤذي الاقتصاد وتفقد الشعب ثقته بالدولة، وتنفر المستثمر، وترفع الأسعار، وبالتالي تنقل شرائح كثيرة من المجتمع إلى خطوط الفقر الدائم أو الموسمي.
رابعاً : إن كثرة الضرائب في ظل إهمال الإنتاج الوطني تزعزع بنيان الطبقة الوسطى، وتجعلها عرضة للتفكك وعدم القدرة على بناء الحد الأدنى من الثروة اللازمة للاستثمار والتوسع الاقتصادي. وهنا تضطر الحكومة لفرض ضرائب جديدة وهكذا.
خامساً :إن مفهوم الاعتماد على النفس الذي أصبح شعار الأردن، بعد ان أكد عليه الملك في أكثر من مناسبة، يعني بالدرجة الأولى الاعتماد على النفس اقتصادياً، أي “حسن الإدارة والإدخار والاستثمار والانتاج”، والانتهاء من حقبة الركض وراء المساعدات والمنح والقروض ، وأن كل قرار مالي يجب أن تسبقه قرارات تعزز الإمكانات الإقتصادية للدولة.
والسؤال هل أمام الحكومة بدائل غير الضرائب؟ الجواب نعم بالتأكيد. ذلك “أن تعاظم المديونية وعجز الموازنة يعود إلى التوسع في النفقات بدون ضوابط إقتصادية، وافتراض وصول مساعدات لا تصل”.
فهدف زيادة الضريبة في مشروع القانون الحالي هو تحصيل 350 مليون دينار. فهل يعقل أن حكومة ميزانيتها 10 آلاف مليون دينار تعجز عن توفير هذا المبلغ؟.
وهنا ينبغي على الحكومة الجديدة اعلان برنامج اقتصادي اجتماعي اداري يتم التوافق عليه وفي الإطار التالي:
أولاً : تفعيل الشراكة الحكومية مع القطاع الخاص والاتفاق على خارطة طريق للنهوض الاقتصادي باتجاه التصنيع والإقتصاد الإجتماعي، وبمشاركة الأحزاب والجامعات والبرلمان لوضعها بشكلها النهائي وضمن فترة زمنية لا تتجاوز 3 أشهر.
ثانياً : تخفيض النفقات الحكومية جميعها بنسبة 7% وهذا كافي لتوفير مبلغ 350 مليون دينار حتى نهاية العام.
ثالثا:  اعطاء مهلة رسمية 3 أشهر للمتهربين من الضرائب لدفع التزاماتهم السابقة وبعد تلك المهلة تتم ملاحقتهم قانونياً بعد تغليظ العقوبة على التهرب، وتيسير عملية السداد للاستحقاقات.
رابعاً: العمل على استعادة حصة الدولة في الشركات التعدينية الكبرى وفي الشركات الأخرى، التزاماً بنصوص الدستور وحفاظاً على الحقوق الوطنية، وحتى تتحول هذه الشركات إلى محركات فاعلة من خلال المشاريع التي يجب أن تنبثق عنها.
خامساً : انشاء شركات استثمارية في المحافظات تساهم فيها الحكومة والمؤسسات الكبرى وتعمل على إقامة مشاريع انتاجية لمنتجات يتم حالياً استيرادها، وكذلك تشكيل جمعيات تعاونية للنهوض بالانتاج الزراعي والمشاريع الصغيرة في المحافظات .
سادساً : التوسع في مشاريع المياه التراكمية، ومشاريع الطاقة المتجددة ،والتوقف نهائيا عن المحطة النووية المرتبكة المتضاربة  التي ليس لها مبرر، و الإنفاقات المرافقة لها،بعد أن أصبحت الطاقة المتجددة أكثر اقتصادية وضمن الامكانات الوطنية.
سابعاً : الالتزام الفعلي بمحاربة الفساد من خلال القدوة والمثال والشفافية لدى كبار المسؤولين نزولاً إلى أدنى الهرم الإداري، والملاحقة الجادة للمتهمين بالفساد لإعادة ما استولوا عليه بغير حق. وهذا شرط أساسي لاستعادة الثقة بين المواطن والإدارة.
ثامنا: وضع حد أقصى للرواتب والمكافآت والبدلات و التعويضات التي يتقاضاها ممثلو الحكومة والشركات المساهمة العامة بحيث لا يتعدى راتب الوزير شهريا،ً وما زاد عن ذلك يتم تحويله إلى صندوق تنمية المحافظات.
لا يوجد عصا سحرية بيد أي حكومة، ولا يوجد “مال جاهز”  بدون ثمن سياسي أو أخلاقي أو انساني. والمستقبل الأفضل يمكن بناؤه بعد أن أثبت الأردنيون في أكثر من مناسبة حرصهم المخلص على وطنهم، ورغبتهم الصادقة في الإصلاح والتغيير الإقتصادي والسياسي والذي لا يتحقق الا بالعلم والجهد والإنتاج والمشاركة والشفافية والديموقراطية.