التعليم والمجتمع

1- مدخل:

ما هو التعليم؟ سؤال يبدو ساذجاً نوعاً ما بعد أن قطع العالم اكثر من 3000 سنة وهو يمارس التعليم والتعلمفي رحلة التقدم والارتقاء التي لا تنتهي. ومع هذا ففي عصر التغيرات السريعة المتلاحقة والثورة الصناعية الرابعة ثورة الرقمية والروبوطية والنانوية والفيمتوية، وفي حقبة تعاظم الفجوة الحضارية والثقافية والانتاجية بين الدول المتقدمة والدول النامية، وفي حقبة تفكك المنطقة العربية وانزلاقها في مآزق الانقسام والصراعات الطائفية والتفكك والحروب الاهليةوالمديونية والعجز الانتاجي والمعرفي والاعتماد على الآخرين في الدفاع والشرعية والغذاء والتكنولوجيا والعلم والمعلومات وفي كل شيء تقريبا، واستباحة القوى العالمية والإقليمية لها، في مثل هذه الحقبة وهذه الحالة يعود السؤال حول ماهية التعليم ضروريا: أولاً:لأن لكل مرحلة تعليمها الخاص بها من حيث المحتوى والتكنولوجيا والاهداف والانتشار خاصة أن العالم اصبح يجتاز  المراحل بسرعات غير مسبوقة. وثانياً:لأن المنطقة العربية في حالة تراجع، خلافاً لمعظم مناطق العالم.

أن التعليم الذي انتشر أفقياً وعمودياً على مدى 60 عاماً يفترض فيه أنه كان رافعة نحو الارتقاء والتماسك والتقدم. ومع هذا فإن معدلات النمو الاقتصادي في المنطقة العربية أقل من المتوسط العالمي ونصيب الفرد من الدخل يصل فقط 50% من المتوسط العالمي ونصيب الفرد من الطاقة كذلك 50% من المتوسط العالمي ودليل الديموقراطية اقل من 40% وانتاج العلموالتكنولوجيا والمعرفة العربي لا يكاد يذكر على المستوى العالمي.. وغير ذلك الكثير. هذا في حين أن دولا عديدة كانت في الخمسينات من القرن الماضي في مرتبة تعليمية وحضارية وثقافية ادنى من المنطقة العربي نجدها اليوم في المقدمة سواء من حيث التكنولوجيا أو الاعتماد على الذات أو الحاكمية أو الإنتاج العلمي أو الإبداع والاختراع، ابتداء من دولة صغيرة مثل سنغافورة ومروراً بكوريا وايرلندا وانتهاء بالبرازيل والهند والصين.

فأين يذهب التعليم في المنطقة العربية؟ وفي كل قطربمفرده؟ وفيها حوالي 850 جامعة و6 مليون طالب جامعي و 220 ألف استاذ جامعي. واين تأثيره الايجابي ونحن نلاحظ تراجع الثقافة المجتمعية والنخبوية، وتراجع التعليم والفكر وهبوط الفنون؟ ما الذي صنعه المتعلمون واين العلماء والخبراء والمهندسون والمفكرون من كل ما يجري وأين جهودهم وامكاناتهم؟ تلك مسألة تاريخية تتطلب الاجابةالعقلانية العلمية الواعية.

في تعريفه للتعليم يقول البرت اينشتاين “التعليم هو ما يتبقى لدى الإنسان بعد أن ينسى جميع ما تعلمه في المدرسة”. وكأن مقولة اينشتاين تشير إلى 3 مسائل رئيسية:

الأولى: أن ما يحفظه المتعلم في المدرسة أو الجامعة من معلومات مصيرها النسيان،وما يتبقى هو ما تأهل له العقل من مهارة للتعامل معمفردات الطبيعة والمجتمع والحياة.

الثانية: أن المجتمع هو الفضاء الذي يتم فيه تشغيل واختبار التعليم والوصول به إلى قيمة مضافة. كما أن التعليم في نفس الوقت هو اختبار للمجتمع بمؤسساته وافراده، من حيث الاستعداد للتغيير ولمدى قابليته للتجاوب ومقدار المرونة التي يتحلى بها للانتقال إلى مراحل جديدة.

الثالثة: أن القيمة الدائمة للتعليم هي ليس في الجانب الشخصي  للمتعلم أو للمؤسسة التعليمية على أهمية ذلك بقدر ما هي في التأثير في المجتمع، والتأثر الايجابي فيه وصنع الإنسان لمستقبله في مجتمعه.

2- غاية التعليم

تتمثل غاية التعليم المعاصر في خمسة اهداف رئيسية ، الأول: اعداد الاجيال الناشئة للمستقبل في الأطر العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والقيمية. والثانيتمكين المتعلم من اكتشاف ذاته بمواهبه وامكاناتهوابداعاته لصنع مستقبله باختياره الحر. والثالثتأصيل التعلم الذاتي واكتساب المهارات العقلية والنقدية والحياتية والمهنية والابداعية ليكون قادراً على التنافس والتفوق. والرابع بناء شخصية وطنية انسانية قاعدتها التسامح والانفتاح والتعددية والتفكير النقدي للمستقبل وتذوق الفنون والجمال والاستعداد للفضول والاستكشافات والمغامرة. والخامس أن يكون التعليم والمتعلم واحداً من المحركات الأساسية الفاعلة في مسيرة ارتقاء المجتمع وتقدمه الحضاري وتعامله بنجاح مع المستقبل بكل معطياته.

هذه الاهداف وما قد يكملها تتناول في الجزء الاكبرمنها “الوجه الرابع للتعليم” أو الوجه المجتمعي، في حين تصبح الاوجه الثلاثة الوجه الداخلي للمؤسسة التعليمية والخارجي والشخصي قواعد ينطلق منها الفعل المجتمعي. وحتى تصل هذه الاهداف إلى مبتغاها لابد من توافر شرطين اساسيين الأول: أن يكون لدى المجتمع بثقافته وافكاره ورؤياه المرونة والفاعلية والديناميكية للاحتضان التفاعلي المثمر لما يحمله العلم والتعليم اليه. والثاني: أن تحمل الديناميكية الاقتصادية السائدة مقومات ومتطلبات الفعل الذاتي لتوظيف العلم والتعليم في الإنتاج وافساح المجال للمتعلم والتشبيك مع المؤسسة التعليمية وليس الجمود الاقتصادي أو الاعتماد على الغير.

وعند التمعن في الشرط الاول تتضح أهمية الثقافة المجتمعية ودفعها والاستثمار فيها باتجاه التنوير وقبول الآخر والعقلانية والاستعداد للتغيير، وكذلك اهمية الاعلام المجتمعي في ذات الاتجاه. في حين أن الشرط الثاني يؤكد على دور الاقتصاد كمستقبل للعلم والتعليم والعلماء وكمحرك للتغيير الاجتماعي. انحيوية الاقتصاد وابداعاته تنعكس تلقائيا على المجتمع والتعليم لانها في جزء منها مستمدة منهما. إضافة إلى ان التعليم الجيد والمتميز يتطلب بالضرورة انفاقاً اعلى لا يمكن توفيره من اقتصاد ضعيف غير قادر على ذلك. فبينما يقترب معدل انفاق المنطقة العربية على الطالب من 550 دولار سنويا نجد هذا الرقم يتضاعف 15 ضعفاً في دول الاتحاد الاوروبي و30 ضعفا في الولايات المتحدة الامريكية.

وحين تعرضت المجتمعات العربية خلال العقود المنصرمة إلى حملات مركزة من التشكيك بالعلم وبالحداثة، والاستهانة بمكانة العقل مقابل النقل،والاتباع بدل الإبداع، والاقتداء بالماضي بدلا من ابتكار المستقبل بتأثير الفكر الماضوي والسلفي، فقد المجتمع استعداده للتغيير. فتراجع التعليم وتراجعت مكانة المعلم والمدرسة والجامعة وتراجعت الثقافةوهبطت الفنون. وفي نفس الوقت تراجعت الاقتصادات العربية نتيجة للاعتماد على الآخر واستيراد المنتجات جاهزة فأدى ذلك الى ضعف تماسك المجتمعات وتهمش العلم والتعليم.

ومن هنا فإن معيار نجاح التعليم ليس فقط في اعدادالمتعلمين ولا في المواد التي تتناولها المؤسسة التعليمية ولا في الهندسة الداخلية لها، وانما في تحقيق اهداف التعليم والتي تتجلى عائداتها في المجتمع بتقدمه إلى الأمام. هذا التقدم يمكن قراءته من خلال ازدهار عدد من المفردات الحضارية مثل : اعدادونوعية الكتب المنشورة تأليفاً وترجمة وأعداد العلماء والخبراء والمفكرين المرموقين والابحاث المنشورة والانفاق على البحث العلمي والتشبيك بين المؤسسات التعليمية والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية واستثمار رأس المال البشري، ومعدلات النمو الاقتصادي ونصيب الفرد من القيمة المضافة في الصناعة والزراعة، ودخل الفرد وتعليم المرأة ومساهمتها في قوى العمل والفروق بين المدن والارياف، وانتشار المكتبات العامة ومعدلات القراءة وانتاج وتنوع الفنون، و الإنفاق على الثقافة والتعليم والمشاريع الكبرى التي يتم تنفيذها، ومدى الاعتماد على الذات، ودرجة العدالة الاجتماعية والحاكمية الجيدة والنزاهة. هذا وتقاس هذه المفردات من خلال مؤشرات indicators أو ادلة indexesتجميعية منها دليل التعليم والمعرفة والابداع والتنافسية والمواطنة والديمقراطية والحاكمية الجيدة والسعادة وغيرها. وفي هذا كان الرئيس كنيدي يقول “لا تستطيع امتنا أن تتقدم بأسرع مما يتقدم التعليم”. والعكس صحيحايضا. إذ لا يستطيع أن يتقدم التعليم بأسرع مما تتقدم به الامة، حيث نلاحظ انه لا يوجد دولة متخلفة لديها تعليم متقدم ومتميز على المستوى المجتمعي العام، كما أنه لا يوجد دولة متقدمة وفيها تعليم متخلف بل دائما لديها تعليم متقدم.

3- المحركات المتزامنة

مما تقدم يتضح أن التعليم ونوعيته وفاعليته وارتقاءه كمحرك للتقدم يعتمد اعتماد كاملا ليس فقط على المدرسة والمعلم والجامعة والمعهد على أهميتها جميعها وإنما على محركين آخرين وهما المجتمع والافتصاد. بمعنى أن التعليم والمجتمع والاقتصاد محركات تعمل بتزامن محكم. فلا يستطيع التعليم أن يتقدم أو ينطلق العلم والمتعلم في مجتمع مغلق مشدود إلى الماضي،متعلق برؤى تجاوزها الزمان والمكان، كما أن المتعلم لا يمكن استثمار امكاناته العلمية وابداعاته حتى تبقى حية ومتنامية في اقتصاد متخلف أو اقتصاد لا تتوفر فيها “الحاجة إلى إنتاج الاشياء” كالاقتصاد البدائي أو المعتمد على التجارة والاستيراد. وبالضرورة فإن المجتمع لا يمكن أن يتقدم دون تعليم جيد واقتصاد انتاجي قوي. والاقتصاد لا ينمو ويزدهر دون تعليم متميز ومجتمع ديناميكي يتجاوب مع متطلبات التغيير في بنيته وقيمه وافكاره وسلوكياته. والمتتبع للنهضة الاوروربية الحديثة يلاحظ أن النهضة الحقيقيةالمجتمعية والعلمية والفكرية والثقافية بدأت تتجذر وتتشكل مع انطلاق الثورة الصناعية التي احدثتتغيرا هائلاً في المجتمع وفي الإنسان. وفي نفس الوقت اصبح التعليم الجيد على مستوى المجتمع ضرورة من ضرورات الاستمرار والنمو الاقتصادي المتصاعد. وبالتالي خرج التعليم من كونه خاصاً بالنخبة، وخرج البحث العلمي من كونه محصوراً في تأملات العلماء والفلاسفة إلى التداخل الفعال والتأثير المتبادل بين المجتمع والتعليم والاقتصاد. بدأ هذا الانطلاق هادئا مع الثورة الصناعية الاولى ليشتد في الثورة الصناعية الثانية ليصبح القاعدة الراسخة لنهضة الشعوب في الثورة الثالثة وما تلاها. واذا نظرنا إلى دليل التعليم education index ودليل المعرفة Knowledge index ومتوسط دخل الفرد نلاحظ العلاقة الوطيدة بين تقدم المجتمع وبين هذين الدليلين وكما هو في الجدول المرفق:

البلد

النرويج

فرنسا

كوريا

سنغافورة

تركيا

الأردن

مصر

دليل التعليم

0.91

0.816

0.865

0.768

0.652

0.7

0.573

دليل المعرفة

8.99

8.69

8.65

7.79

5.14

4.71

4.19

دخل الفرد

(1000 دولار)

102495

44103

25975

55979

10806

5151

3200

ويمثل الأردن حالة ملفتة حيث دليل التعليم يرتفع إلى 0.7 في حين أن دخل الفرد هو 5151 وهو اقل من المتوقع ويعود ذلك إلى عدم التجاوب الاقتصادي والاجتماعي مع متطلبات العلم والتعليم المتقدم، لا من حيث تصنيع الاقتصاد ولا من حيث مرونة المجتمع وانفكاكه من الماضي. وهذا يفسر في جانب آ خر هجرة العقول وهجرة الكفاءات العلمية والمهارات التكنولوجية سواء في الأردن أو غيره من الأقطار العربية ما الذي سيفعله المتعلم حين يجد المجتمع غير قادر على التجاوب مع علمه وطموحاته وامكاناته؟ وما الذي سيفعله حين يجد آلة الاقتصاد الوطني عاجزة عن اتاحة فرصة العمل المناسب؟ فهو أما يتخلى عن كل طموحاته وبالتالي يتحول إلى مجرد رقم عادي في المجتمع واما ينغلق على نفسه أو مؤسسته ويصبح تقدم المجتمع غير ذي أهمية بالنسبة له واما يهاجر إلى مكان آخر ومجتمع آخر فيه فرصة للتجاوب مع طموحاته وتطلعاته وهذا ما تعاني منه معظم الأقطار العربية نتيجة لعدم تزامن المحركات الثلاثة التعليم والمجتمع والاقتصاد.

فالمجتمع خسر ما استثمره في المتعلم من اموالوخسر كذلك الفرصة التي ضاعت نتيجة لهجرة العقول والمهارات وهذه تقدر بمئات الملايين من الدولارات على مستوى القطر الواحد. لماذا نجد بلداً صغيراً مثل سويسرا لديه ادنى نسبة في العالم من هجرة العقول والمهارات؟ الاجابة أن ذلك التواؤم والتزامن بين التعليم والمجتمع والاقتصاد يجعل المتعلم قادراً على تحقيق ما يريد وبالتالي لا مبرر للهجرة ابدأ.

وما ينطبق على هجرة العقول ينطبق على مساهمة المرأة في قوى العمل. ففي الاقتصادات الضعيفة النمو كما هو الحال في المنطقة العربية والمجتمعات غير المتوازنة فيما يتعلق بالرجل والمرأة نجد أن  البطالة بين النساء مرتفعة . ويمثل الأردن حالة غير اعتيادية حيث فرص التعليم للمرأة تساوي الرجل تماما إلا أن ضعف النمو الاقتصادي وضعف بنية الاقتصاد والمجتمع المحافظ جعل مساهمة المرأة في قوى العمل بحدود 14% فقط مقارنة مع 51% في الاقتصادات المتقدمة بكل ما يعني ذلك من فرص واستثمارات وإبداعات ضائعة.

4- النتيجة

أن التعليم في نتيجته النهائية هو ليس فقط ما يتم داخل المؤسسة التعليمية بل مقدار ونوعية ما يتم في المجتمع من تفاعل نتيجة للتعليم ومثل هذا التفاعل يتطلب انفتاح المجتمع واستعداده للتغيير ويتطلب البيئة الاقتصادية التي تواكب التعليم أو تتقدم عليه في حداثتها وديناميكيتها وتكنولوجيتها. وهذا يعني أن التعليم ليس مشروع مدرسة أو جامعة انه مشروع دولة ومشروع مجتمع وادارة حكومية ومشروع اقتصاد صناعي وتكنولوجي وثقافة مشروع وتجديد وابداعومشروع انطلاق للعقل والفكر والمهارات والخيال في التعامل مع الواقع والمستقبل وفي غياب ذلك أي في ظروف الاقتصاد ما قبل الصناعي وارتداد المجتمع إلى الماضي وسيطرة الفكر الماضوي على نظرة المجتمع فإن التعليم يفقد  ديناميكيته وقدرته على التغيير والتأثير بل يأخذ في التآكل والتراجع. والمجتمع هو بالمفهوم الديناميكي البيئة الحاضنة للتعليم. وما لم تكن الدولة مدركة لمتطلبات تشغيل التعليم في حاضنة صحيحة وقوة محركة مناسبة فإن اهداف التعليم تتراجع بضغط الزمان.

 

إن أهداف التعليم تتراجع بضغط الزمان لعدم إدراكالدولة لمتطلبات تشغيل التعليم في حاضنة صحيحة وقوة محركة مناسبة.