التطوير الإداري وإعادة خلط الأوراق

(1)
ظهرت خريطة الطريق للتطوير الإداري، وكانت إلى حد كبير مفاجأة للمتابعين. فنحن ربما من أكثر الدول تطلعا إلى التطوير الإداري والحديث عنه وإعداد التقارير. ولذا ومنذ ما يقرب من 20 عاماً وحتى اليوم تم إنشاء وزارات ولجان وهيئات وتسمية وزراء لهذه الغاية. ومع هذا، لم تتغير الحالة الإدارية إلى الأحسن، وأخفقت المحاولات ولم تتطور الإدارة باتجاه الحداثة ومنافسة الدول التي سبقتنا، بدليل أننا لا زلنا نتحدث عن برنامج للتطوير والتحديث نريده للسنوات القادمة. ولعل هذا الإخفاق يعود إلى تمسك الإدارات المتعاقبة بمبدأين رئيسين مناقضين لمفهوم التطوير والتحديث وهما: التعميم والاستسهال.
وعلى الرغم من التوسع في المصطلحات إلا ان الواقع يغلب عليه الاكتفاء بعبارات لطيفة مثل التطوير والتحديث والتمكين والتعزيز، وكلها مصطلحات جيدة، ولكنها ذات مدلول انطباعي، لأنها لا تجيب على السؤال: ما الذي نريد أن نصل إليه على وجه الدقة؟ وما هو الرقم الذي نسعى إلى تحصيله بالنسبة للحكومة وبالنسبة للمواطن في كل تنظيم إداري؟ وانطلاقا من مبدأ التعميم فإن الحكومة لا تأخذ كل وزارة ومؤسسة بعينها لتنظر بالتفصيل في إشكالاتها ومتطلباتها، ومؤشرات الأداء فيها على ضوء المؤشرات الدولية المناظرة، ونقاط الضعف أو القوة فيها، ومدى رضا المواطن عن أدائها، وما الذي نريد أن نصل إليه بالتحديد ليتم وضع برنامج التطوير على ضوء ذلك، وإنما تذهب غالبا إلى النقاط العامة التي لا تترك أثرا يذكر. هذا، في حين أن التحديث المطلوب في الجمارك مثلا يختلف تماما عن المطلوب من تحديث التعليم، أو النقل أو الزراعة أو تحديث الصناعة والطاقة. وانطلاقاً من مبدأ التبسيط ومبدأ الاستسهال يجرى دمج هذه الوزارة مع تلك، وتحويل تلك الدائرة إلى هيئة أو هيئتين مستقلتين، وإعادة فك وتركيب هنا وهناك، أو تغيير التشريعات دون أي تغيير جوهري يذكر في الأداء، وذلك لغياب التشخيص الصحيح أولاً ومعالجة المريض ثانياً.

(2)
فالتشخيص قبل كل شيء يجيب على سؤال: ما هي المشكلة الإدارية في تلك الوزارة المعينة على وجه التحديد؟ هل هي بطء الإجراءات؟ أم تفشي الفساد؟ أم عدم رضا المواطن؟ أم الاكتظاظ بالموظفين أم عدم الأهلية المهنية للجزء الأكبر من الموظفين؟ أم غياب التكنولوجيا؟ أم الضعف في اتخاذ القرار؟ أم ارتفاع النفقات الإدارية؟ أم المركزية المفرطة؟ أم عدم التجديد في أساليب العمل؟ أم نقص القيادات في المستويات المختلفة؟ أم ضعف الفنيين وضآلة الخبرة لديهم؟ أم هي نقص الأجهزة والمعدات؟ وفي هذا الشأن تختلف كل وزارة ودائرة عن الأخرى، وبالتالي تتطلب معالجة تناسبها.
أما الجانب الآخر في الموضوع فهو موضع الإصلاح أو المريض، وهو الجهاز الإداري في تلك الوزارة أو المؤسسة، مع التأكيد هنا على أن الموظف، وبكل احترام، مهما كانت درجته ومسؤوليته هو العمود الفقري للتطوير والتحديث قبل القوانين والتعليمات… هل الموظف على وعي بمشكلات الإدارة؟، هل يحتاج إلى تدريب وتأهيل حتى يتجاوزها؟ هل هناك قياس رقمي للأداء،؟ وهل يعلم الموظف ما الذي يجب أن يحققه خلال فترة زمنية محددة؟ أما الاستسهال بإلحاق هذه الدائرة بتلك أو دمج هذه الوزارة مع أخرى، أو تقسيم تلك الوزارة إلى هيئات، أو إلغاء الوزارة بكاملها لتصبح جزءا من وزارة أخرى، فإنه لا يحقق أي هدف، ويكون مجرد إعادة إنتاج ذات المشكلة ولكن بمظهر مختلف.

(3)
إن أي تطوير أو تغيير باتجاه التحديث يجب أن يقوم على دعائم أساسية أربع، الأولى: تحديد المشكلة تفصيلاً وليس تعميماً. الثانية: تبيان الصورة المستقبلية المراد الوصول إليها بالرقم الأدائي والزمني. الثالثة: وضع خطة التحديث. الرابعة وضع البرنامج التنفيذي بعد توفير المتطلبات اللازمة.
فحين أعلنت خطة التطوير عن إلغاء وزارة العمل على سبيل المثال وتوزيع أعمالها على الداخلية والتنمية الاجتماعية والصناعة والتجارة… يتساءل المواطن ما هي المشكلة في وزارة العمل؟ وهل توزيع أعمالها على 3 وزارات سوف يساعد المواطن على الوصول إلى الخدمة التي يريد، أم أنها ستجعله يتنقل من وزارة إلى أخرى؟ ثم ما هي القيمة المضافة حين يجري إلغاء وزارة العمل ولدينا نسبة بطالة مرتفعة جدا(23 %)،؟ وعمالة وافدة تتعدى 1.4 مليون عامل، ونسبة متدنية لمشاركة المرأة في سوق العمل(14.5 %)، ولدينا نقابات عمالية وأصحاب عمل، وقوانين عمل، وتعويضات، ولدينا مكاتب عمل في كل محافظة، وعمالة أردنية مغتربة، وعمالة ناشئة وعمالة أطفال، ومنظمات عمل دولية وغير ذلك الكثير. ما الذي سيتحقق من هذا التوجه لإلغاء وزارة العمل، علماً بأن الموظفين سيبقون في الوظيفة الحكومية ولن يتم تسريحهم؟ ببساطة تراجع إلى الوراء وليس تقدما إلى الأمام.
وحين تعلن خطة التحديث عن دمج وزارة التعليم العالي بوزارة التربية والتعليم لتصبح وزارة التربية والموارد البشرية، وإلحاق التدريب المهني ورياض الأطفال وكل ما له علاقة بالموارد البشرية بالوزارة الجديدة… يتساءل المواطن هل تم تحديد المشكلة في كل من هذه المكونات المتباينة تماما وكان الحل السحري والدواء الشامل هو دمجها جميعها في وزارة واحدة؟ وهل اتضحت أسباب هذا الدمج؟ هل تم النظر في حجم المسؤولية على الوزارة الجديدة حيث ستكون مسؤولة عن 3 ملايين مواطن بين طلاب وموظفين؟ وعليها أن تدير شؤون 200 ألف موظف وتدربهم وترعى شؤونهم؟ ما هي نقاط الضعف التي سيعالجها مثل هذا الدمج؟ هل تم تشخيص مشكلات التعليم الأساسي والتعليم العالي والتدريب المهني على وجه التحديد؟ هل سوف يتحسن التعليم الأساسي وتكون فرص التأهيل للمعلم أفضل؟ هل ستتغير البيئة المدرسية إلى الأحسن؟ وهل سيصبح أداء المدارس الضعيفة أفضل وأقوى؟ أم سيتحسن التعليم الجامعي بالدمج، فيتجه للاهتمام بالمهارات وبناء شخصية الطالب الوطنية والمهنية والريادية؟ أم هل سيتجه البحث العلمي نتيجة للدمج إلى حل المشكلات التي تعترض القطاعات الاقتصادية والاجتماعية؟. هل كانت مشكلة التعليم الأساسي في انفصال وزارة التربية والتعليم عن التعليم العالي؟ أم أن عقدة القبول الجامعي هي التي سيطرت على المشهد؟ أسئلة برسم الإجابة.

(4)
إن الأساس المتعارف عليه في إنشاء الوزارات في العالم هو حين تكون هناك مسألة محددة أو قطاع أو قضية معينة على مستوى الدولة، ولها تأثيرات قوية على المسيرة المجتمعية أو الاقتصادية، وبالتالي تتطلب العلاج والاهتمام بشكل خاص، تقام لأجلها وزارة أو ما يناظرها. وقد تستمر لفترة متوسطة أو طويلة حسب النجاح في تحقيق الأهداف. وحين تلغى وزارة أو مؤسسة يكون دورها قد انتهى ولم يعد له ضرورة وزالت الأسباب الموجبة. فهل إلغاء وزارة النقل ودمجها في وزارة الأشغال يأتي لأن قطاع النقل قد حل جميع مشكلاته؟ وأصبح يسير بصورة متقدمة كما هو الحال في الدول المتقدمة أو الناهضة؟ هذا في حين أن الواقع لدينا يؤكد أننا بحاجة ماسة إلى نقل عام وشبكة سكة حديد وطنية متكاملة وليس شبكة مرور ومنظومة أنابيب للنفط والمشتقات والغاز، وصيانة منتظمة للطرق للتخلص من الازدحام المروري الذي يخنق المدن الكبرى وخاصة العاصمة.. ومع هذا تبقى هيئة تنظيم قطاع النقل وهيئة النقل البري وهيئة النقل البحري وهكذا… إن قطاع النقل في وضعه الحالي يستهلك 49 % من مجمل استهلاك الطاقة بكل ما يعني ذلك من كلفة على الاقتصاد الوطني تتجاوز 17 % من الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة التلوث والحوادث على الطرق. فهل دمج النقل مع الأشغال والإسكان سوف يحل هذه المشكلات؟ وما ينسحب على وزارات النقل والعمل ينسحب على الثقافة والشباب. وقد سبق أن تم جمعهما في وزارة واحدة، ثم هيئة، ثم مجلس أعلى، ثم رجعت الحكومة إلى وزارة منفصلة لكل من الثقافة والشباب.

(5)
وأخيراً فإن تطوير الجهاز الإداري لا يعني خلط الأوراق مرة هنا ومرة هناك، ولا لعبة الكراسي وإعادة ترتيب الأثاث نفسه في الغرفة نفسها… إنه أمر غير ذلك تماماً. إنه النظر إلى المستقبل والتعلم من تجارب الدول الناجحة والإفادة من رأس المال الوطني في الخبرة والعلم والمشاركة والمدخرات وتحديد الأهداف بموجب مؤشرات رقمية والتركيز على تحديث العقل الإداري وطريقة تفكير الموظف. فالحداثة في العقول والضمائر والمهارات والإجراءات، والنظرة إلى المواطن، قبل إعادة التنظيمات والآلات والتشريعات.