(1)
استطاع الأردن خلال السنوات الماضية، أن يرتقي تدريجيا بالحالة العامة للطفولة ابتداء من الغذاء والمأوى، وانتهاء بالصحة والتعليم. واستطاع ان يخفض عمالة الاطفال بشكل جذري فلا تتعدى اليوم 2.6 % في حين ان المعدل في الدول النامية يصل الى 17 %. كذلك فإن 97 % من الاطفال متاح لهم التعليم الاساسي سواء للذكور او الاناث كما ان نسبة الوفيات في الاطفال تحت الخامسة قد تراجعت في الاردن خلال العقود القلبلة الماضية بنسبة 33 %. هذا اضافة الى توفر الكهرباء ربما بنسبة 98 % والماء بنسبة 97 %. وهي كلها انجازات، وإن لم تكن كاملة، تستحق الثناء من جهة، وتتطلب المتابعة والبناء عليها من جهة ثانية. ويواجه الاردن مشكلات معقدة سواء في التغيرات المناخية او في توفير المياه و الغذاء أو في ضعف النمو الإقتصادي أو عدم استقرار المنطقة، أو تدفق أعداد ضخمة من اللاجئين. فهناك 30 % من الاطفال أو ما يعادل 1.2 مليون طفل هم غير اردنيين، وبالتالي فإن تحركهم على سلم العمر يتطلب استراتيجية خاصة للتعامل مع وجودهم في سوق العمل بعد تجاوزهم سن الثامنة عشرة، خاصة وأن البطالة بين الشباب ما تزال مرتفعة 33 %.
من جانب آخر فإن الاطفال ذوي الاحتياجات الخاصة بسبب الاعاقة تصل نسبتهم الى 10.3 % من مجمل عدد الاطفال بكل ما يعني ذلك من ضرورة الاهتمام بهذه الفئة من الاطفال وتمكينهم من التعليم ومن الاعتماد على أنفسهم كلما كان ذلك ممكنا. ومن هنا فإن توفير التعليم المناسب لهم والمرافق الملائمة يضع عبئا اضافيا على جهود الدولة ازاء الاطفال.
ان 45 % من الاطفال العاملين منخرطون في مهن خطيرة،علما بأن قانون العمل يمنع عمالة الاطفال لأقل من 16 سنة، ويمنع عملهم في المهن الخطيرة بين العمر 10-18 سنة.
ومن هنا فإن وجود قانون واضح ومفصل يتناول شأن الطفولة برؤية مستقبلية منفتحة تقوم على القيم الوطنية والانسانية، أمر له أهميته البالغة لتأصيل ومأسسة حماية الطفولة ودعمها، وخاصة في المفاصل الضعيفة، بمعنى إنها ليست بالمسألة الهامشية بقدر ما هي ضرورة تمثلها المصلحة الوطنية اولا، والقيم الوطنية والدينية والانسانية ثانيا، وتقتضيها الاتفاقيات والمواثيق الدولية والتي تلتزم بها حسب تقديرنا اكثر من 120 دولة في العالم الثالث.
(2)
وقد بينت الاحداث التي اجتاحت مناطق مختلفة من الوطن العربي وافريقيا، حيث الحروب الاهلية، والحركات المتطرفة، والتدمير والقتل والسبي، ان الاطفال كانوا الفئة الاضعف والأكثر معاناة، وتم استخدامهم كأدوات في اعمال العنف، اضافة الى تعرضهم للأسر والقتل وكما يفعل المتطرفون في كل مكان، وتفعل اسرائيل في اطفال فلسطين. وعليه فإن اصدار قانون لحماية الطفل يجمع مفردات هذه الحماية ويؤكد عليها، حتى وإن وردت في قوانين اخرى، يمثل خطوة وطنية وانسانية الى الامام، ومع هذا، فإن مشروع قانون حماية الطفل لم يسلم من حملة منظمة ضده، وكأنه خطر على الطفولة وعلى المجتمع في آن واحد.
ان تماسك الاسرة في بلادنا ظاهرة نعتز بها ويعمل الجميع دائما الى تعزيز.. والسؤال: هل مشروع القانون يعمل على تفكك الاسرة؟ هل حماية الطفل تمثل اضعافاً للأسرة ام دعما لها؟ هل الالتزام بتعليم الطفل وتأمين الغذاء والدواء والمعاملة الحسنة يضعف الاسرة ام يشيع فيها روح المحبة والتماسك؟ ان اعداء الاصلاح والتقدم يفضلون القفز في الهواء للوصول الى الحالات القصوى. فأن يكون للطفل الحرية في التفكير والتعبير عن ذاته لا تستدعي الافتراض ان الحرية سوف تعنى الانفلات والكفر والالحاد، او تعني رفضه للقيم المجتمعية او الدينية. إن الحرية لا تتعارض مع قيم الدين الذي حمل الانسان مسؤولية ما يقوم به من أعمال. وهل اعطاء الحق بالشكوى ضد التعسف او الاكراه يعني ان المجتمع سيتفكك؟ إلا اذا افترضا ان الممارسة العامة في مجتمعنا هي القهر والتسلط وهو امر غير صحيح ابدا. هناك كما في كل مجتمع وكل موضوع حالات غير اعتيادية تحتاج إلى القضاء، ولكن لا يجوز تعميمها، وكأن المجتمع اصبح بكامله في هذه الحالة غبر الواقعة أصلا. إن مشروع القانون يستحق الدعم والتأييد، والخلاف القانوني او العلمي حول بعض مواده أمر طبيعي، وهو اذا تم تطبيقه بشكل صحيح سوف يعمل على تمكين الاجيال الناشئة، وتلافي نقاط الضعف في بنية المجتمع، ودعم امكانات التميز في مستقبل الايام
(3)
لقد استحوذ مشروع قانون حماية الطفل الذي قدمته الحكومة لمجلس النواب على الكثير من الوقت واهتمام الجمهور ومواقع التواصل الاجتماعي، وذلك بسبب محاولات البعض الصاق افتراضات وتأويلات بعيدة كل البعد عن مقاصد القانون التي يجب ان تقرأ على ضوء الدستور الأردني، وبعيدة عن نصوص مواده المختلفة. وقد جاء مشروع القانون استكمالا لالتزامات الدولة الاردنية بعدد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية من مثل اتفاقية حقوق الطفل عام 1991، والبروتوكولات الخاصة بمنع بيع الاطفال واستخدامهم في المواد الاباحية واشاركهم في النزاعات المسلحة.
إن توقيع الاردن على تلك المواثيق في حينها لم يكن محل استنكار واستغراب، كما ان وجود نصوص تؤدي بعض الاهداف الواردة في القانون لا تمنع من يصاغ مشروع قانون متكامل متماسك يهدف الى حماية كتلة مجتمعية تصل في متوسطها الى اكثر من 40 % من مجموع السكان أو 4 مليون طفل. وهي كتلة كبيرة بكل المقاييس وفي نفس الوقت هي الكتلة الاقل تحكما بمستقبلها ومصيرها وحياتها، وبالتالي فهي الاكثر حاجة الى الرعاية والحماية وفي نفس الوقت التربية والتوجيه والتدريب والتمكين في شتى المجالات ابتداء من اللغة وانتهاء بمهارات الثورة الصناعية الرابعة.
(4)
لماذا الهجوم على مشروع القانون، وشيطنته وكأن الدولة على وشك ارتكاب جريمة بحق المجتمع؟ الهجوم على مشروع القانون يعود لأسباب كثيرة في مقدمتها أولا:نظرية المؤامرة: هي النظرية التي اصبحت شائعة في المنطقة العربية بسبب الاخفاقات السياسية والاقتصادية المتتالية. كما ان واحداً من اهم اسباب رواجها انها تريح اصحابها من التفكير الجاد والتحليل العلمي، وانما الاكتفاء بالرفض دون معرفة الحيثيات والتفاصيل باعتبارها مؤامرة خارجية. ولذلك يسمع المواطن من اصحاب هذه النظرية، ايمانا بها او استعمالا لها، يؤكدون ان الهدف من القانون هو تفكيك الاسرة الاردنية، واضعاف بنية المجتمع تمهيدا لغزو حضاري قادم يسعى اليه الغرب خاصة، وغير ذلك من قصص يلعب فيها الخيال دورا بارزا.
ثانياً: الشعبوية فالهجوم المفتوح على الحكومة وعلى نواياها يمثل وسيلة جاذبة لدى البعض لاكتساب الشعبية والمكانة السياسية المفقودة، باعتبار ذلك كشفا للمؤامرة التي يراد ايقاع المجتمع فيها، وبالتالي تصوير الشعبويين انفسهم منقذين للأمة وكاشفين للمؤامرة ومبينين للحقائق التي تحاول الدولة بهذا القانون اخفاءها.
ثالثا: تديين الخلافات: ليس من الخطأ ابدا بل من واجب كل وطني ان يبين الحقائق بالعقل والعلم والمنطق واستنادا الى القوانين الوطنية والانسانية. ومن الطبيعي ان يكون هناك خلاف في الآراء. ولكن ليس من الطبيعي ولا المجدي ان تعطي للقضايا موضوع الخلاف طابعا دينيا، ويصبح من يخالف الرأي يخالف الدين. ومن حيث المبدأ لا يوجد في مشروع القانون ما يتعارض مع الدين من قريب او بعيد، بل ان المادة 5 ب من مشروع القانون تؤكد الالتزام بالقيم الدينية والمجتمعية باتجاه “تنشئة سليمة تحترم الحرية والكرامة الانسانية والقيم الدينية. إن العمل على اسكات الطرف الاخر او كسب تعاطف الجماهير بحجة الدفاع عن القيم فهذا لا يفيد في شيء. هذا مع العلم ان مشروع القانون قبل تقديمه للبرلمان تم عرضه على ديوان التشريع وعلى الجهات الدينية ذات العلاقة وبالتالي فهو لم يكن بعيدا عن انظار الدوائر الدينية الرسمية.
من جانب آخر فإن الدين في نفوس المواطنين وضمائرهم وعقولهم اقوى بكثير مما يفترض البعض، واعمق تجذرا من ان يغيره تفسير لمادة قانونية هنا وهناك. ان البعض يصور افراد المجتمع ظلما وكأنهم يتمسكون تمسكا هشا ضعيفا في قيمهم الوطنية والمجتمعية والدينية في حين ان الحقيقة هي عكس ذلك تماما. فكل مواطن حريص على قيمه كافة، وحريص على مستقبل وطنه. والأطفال هم من يصنع المستقبل