أعلنت الحكومة برنامجا أطلقت عليه اسم “برنامج التعافي الاقتصادي”. وفي مقدمة الإعلان أشار وزير التخطيط إلى أرقام صادمة بل مريعة، منها، ان نسبة الفقر في المجتمع الأردني تقدر بـ 24 % ونسبة البطالة تعدت 25 %. أي أن ربع سكان البلاد يعانون ويلات الفقر والبطالة، وبالتالي الاحباط والغضب.
وقبل سبع سنوات في العام 2014 كانت نسبة الفقر 14 % ونسبة البطالة 12 %. وفي المقابل ارتفعت المديونية من 18 مليار دينار العام 2014 الى 34 مليار دينار للعام 2021.
إن هذا التزايد المتصاعد والمضطرد في المفردات الثلاث: الفقر والبطالة والمديونية على مدى أقل من 10 سنوات يكشف بكل وضوح وبشكل قاطع أولا الاقتراب الخاطئ للإدارات المتعاقبة من المسألة الاقتصادية، وثانيا عدم الاكتراث بالشرائح المجتمعية التي تغرق في الفقر والبؤس والمعاناة يوما بعد يوم، وثالثا القراءة الخاطئة للأمن المجتمعي للدولة.
صحيح ان هناك ظروفا غير اعتيادية في المنطقة، ولكن هذه الظروف مستمرة ومتفجرة منذ سنوات.
إذ لم تستقر المنطقة على مدى مائة عام، ولا يتوقع لها ان تستقر خلال شهر أو سنة بل ربما تمتد لأكثر من عشرين سنة قادمة. فهل سيستمر التراجع لدينا إلى أن تنتهي الظروف وتختفي الأسباب ؟ وجزء كبير من الحالة من صنع ايدينا؟
وفي نفس الوقت فإن اعتماد البلاد على الاستيراد والمساعدات تواصل وتجذر ليكون واحدا من السمات المميزة للاقتصاد الوطني، إلى الدرجة التي لجأت فيها الإدارة إلى استيراد المياه من الكيان الصهيوني، بدلا من انشاء محطة تحلية للمياه لا تتكلف أكثر من 100 مليون دينار في بلد ميزانية الحكومة فيه 10 مليارات دينار.
وراح الاستيراد يتعدى الرقم 15 مليار دينار سنويا صعودا أو هبوطا مع تأرجح أسعار النفط والمشتقات النفطية. كل ذلك إضافة إلى الضرائب المتزايدة وارتفاع الأسعار، مما جعل تكاليف الحياة مرهقة للجزء الأكبر من المواطنين. فتقلصت الطبقة الوسطى،
وهي المحرك الرئيسي، إلى اقل من 15 % من السكان، وتصاعدت البطالة واتسعت جيوب الفقر، واقفلت آلاف المصانع أبوابها، وهربت رؤوس الأموال الأردنية، بل والسياحة إلى تركيا ومصر والخليج. هذا والحكومات المتعاقبة تصدر البيانات والتصريحات والوعود، بأن …..وسوف… دون أن يرى المواطن شيئاً ملموساً على الارض يخفف عنه مشقة المعيشة سواء قبل “كورونا” وحتى اليوم.
بعد كل هذه الدلائل العملية، من الواضح أن هناك فجوة ضخمة بين الإدارات وبين المجتمع، وبين رؤية الإدارة وآليات عملها وتفكيرها، وبين ما يجرى في العالم المتقدم والناهض بل والنامي. فالحكومة لا ترى في الاقتصاد الاّ المال، سواء في الجباية أو الاقتراض أو المساعدات أو الضرائب أو المنح أو المكافآت أو الاسترضاء، في حين ان المواطن والمجتمع، شأنه شأن المجتمعات الأخرى، يفهم الاقتصاد انه تمكين المواطن من سبل الحياة الكريمة والاكتفاء، والعمل على نهوض القرى والأرياف والبوادي وإعمار الراضي والأطراف، والاهتمام بدخل المواطن ومتطلبات معيشته وتوفير فرص العمل.
ورغم عشرات التوجيهات والأوراق الملكية، ومئات التقارير والاستراتيجيات، وآلاف المقالات التي تنبه الإدارة إلى ضرورة تغيير النهج والمفاهيم والبرامج، وأولوية الاهتمام الفعلي بتطوير الصناعة والزراعة والسياحة والقطاعات الأخرى، وضرورة العمل على إنخراط القدرات الوطنية في العمل المنظم على طريق الاعتماد الذاتي،
وحيوية تقليص الفساد بأشكاله المختلفة، كما كان أردن الستينيات والسبعينيات، الا أن هناك إصرارا على تجاهل كل ذلك والتمسك بمفهوم المال وترهيل الإدارة، وتصريف الأعمال، وليس مفهوم الاقتصاد والتغيير والتحديث.
هل يصعب ان تدرك الإدارة ان الركن الرئيسي في الاستقلال هو الاعتماد على الذات، وخاصة في الانتاج؟ وان اساس الإنتاج هي المشاريع الإنتاجية قبل التوسع في البنية التحتية على أهميتها؟ هل يصعب ان تدرك الإدارة ان العمود الفقري للاقتصاد هو الإنتاج الوطني من السلع والخدمات بقيمة مضافة مقبولة؟ هل يصعب ان ترى الإدارة ان وصول البطالة في بلادنا الى رقم 25 % يحمل اخطاراً اجتماعية سوف يصعب التعامل معها اداريا أو انسانيا أو اقتصاديا أو حتى امنيا؟ سواء كانت الجريمة أو المخدرات (13 ألف قضية مخدرات العام الحالي) أو التطرف أو الاحباط أو الهجرة؟ (البطالة في مصر 7.4 % وتونس 17 % ) ؟.
هل يصعب ان ترى الإدارة ان كل حصة من الاستيراد بمقدار 30 ألف دينار للكثير من السلع تعني ضياع فرصة عمل على مواطن أردني؟ هل يصعب أن تقتنع الإدارة ان تنمية البوادي والأرياف وتنمية المحافظات لا تتحقق الا من المشاريع الانتاجية الناجزة في تلك الاماكن؟.
هل يصعب أن تدرك الإدارة ان التوسع في التعليم العالي وانشاء جامعة أو أكثر في كل محافظة، وفي نفس الوقت عدم انشاء مشاريع إنتاجية ومراكز اقتصادية محلية هناك يعني إحباط الشباب ورحيلهم الى المدن ومنها العاصمة وهجرة الريف الى المدينة وتفريغ البوادي والارياف؟ حيث اقترب سكان المدن من 90 % من سكان المملكة؟ هل يصعب ان تدرك الإدارة ان الاقتصاد صناعة وطنية وليس وصفة دولية، وأن المعونات والمنح والاقتراض الموجّه للنفقات الجارية وللبنية التحتية هو طريق مسدود يفاقم الوضع المالي والاقتصادي للدولة على حد سواء، وقد وصلت خدمة الدين العام لدينا 1600 مليون دينار سنوياً يتحملها المواطن ؟ هل يصعب ان تدرك الإدارة ان زيادة خدمة الدين العام خلال عشر سنوات بمقدار 170 % هو أمر غاية في الخطورة؟ هل يصعب ان ترى الإدارة ان انسحابها من المجال الاقتصادي وعدم مشاركتها الفعلية في المشاريع الجديدة متوسطة أو كبيرة، والاختباء خلف برامج كلامية ووهمية تعلق عليها أسماء رنانة مثل اصلاح أو انعاش أو تعافي أو تحفيز أو تعزيز أو تدعيم، كل ذلك يمعن في تأزيم الوضع الاقتصادي الاجتماعي والهبوط بمعيشة المواطن الى الادنى.
هل يصعب على الإدارة ان تدرك ان الهروب من المسؤولية باللجوء الى الشركات الأجنبية للإدارة ولبناء المشاريع وتشغيلها ومن ثم تسليمها بعد سنوات طويلة Bot تعنى قتل المهارات الوطنية ودفع المتخصصين الى البطالة والهجرة؟ هل يتعذر على الادارة أن تدرك ان العقبات الإدارية والاجرائية وعدم استقرار التشريعات وتخبط سياسات الطاقة والمياه، رفعت من كلفة الانتاج ومن تكاليف المعيشة؟
وجعلت الأردن غير جاذب للاستثمار رغم الأمن والأمان ورغم المركز المتوسط والمزايا الأخرى التي يتمتع بها؟. هل يصعب ان تقتنع الادارة بأن الشراكة مع القطاع الخاص الوطني وليس الأجنبي، لا تكون بالكلام والتصريحات والتي مضى عليها أكثر من 30 سنة، وانما بالممارسة العملية، كما نرى في ماليزيا أو اليابان أو كوريا مثلا، حيث الاجتماعات الأسبوعية والشهرية والسنوية بين رئيس الحكومة وأصحاب الأعمال للاتفاق على برامج للتطوير
والإبداع والمنافسة، وضع الحلول للمشكلات ورسم الخطوط للمستقبل؟ هل يصعب على الإدارة ان تدرك ان الجامعات والمراكز البحثية هي بيوت خبرة وتطوير وابتكار للمساعدة في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والقطاعية المتخصصة، وليست مجرد خطوط انتاج أو كتاتيب لتخريج الطلبة ولا البحث العلمي مجرد تمرينات ذهنية وأوراق للترقية. هل يصعب على الإدارة أن تدرك ومن تجارب الأمم أن استنفاذ السنين في الكلام والحوار
والنقاش حول الديمقراطية والأحزاب والانتخابات دون المباشرة الفعلية في التطبيق هو إضعاف للوطن و قهرللمواطن ومتاهة للحكومات ومشاغلة للبرلمانات؟.
وبعد هل يمكن ان تنخرط الإدارة في العمل الجاد بإرادة صادقة، وتبدأ برنامجاً تشاركياً مع القطاعات الأهلية والخاصة والأكاديمية، يقوم على مساعدة الشركات والمصانع المتعثرة على النهوض وتثبيت التشريعات وضغط النفقات بنسبة 5 % لتوفر 500 مليون دينار سنوياً توجهها لبناء المشاريع الانتاجية الجديدة وخاصة في المحافظات ولإنتاج جزء من السلع المستوردة، وتعتمد فيها على الأردنيين خبراء وشركات ومؤسسات وتعاونيات، وتعتمد على التمويل الوطني المشترك ليأخذ الاقتصاد شكلاً مجتمعياً؟.
هل يمكن ان تضع برنامجاً لحل مشكلات قطاعي الصناعة والزراعة والقطاعات الأخرى خلال 60 يوماً؟ هل يمكن ان يتفهم كل موظف في الإدارة مهما كانت درجته وموقعه ان الأرقام التي وصلنا اليها مخيفة ؟ وعليه المساهمة في العمل على تحسينها؟ نرجو ذلك. فعسى تخرج الإدارة من تصريف الأعمال، ويخرج الوطن الى تحسين الأحوال.