إدارة المؤسسات… وحياة المواطن

ازداد الوعي بأهمية حياة الانسان في بلدنا ودول العالم، الى الدرجة التي اصبح اي اهمال يؤدي الى الموت لا يمر بسهولة، مهما كانت الأسباب، بخاصة في المجال الطبي، بل سرعان ما ينكشف الأمر ويتحرك الرأي العام لمتابعة اسبابه، ومن يتحمل المسؤولية، وإعطاء العدالة الفرصة لتأخذ مجراها.
هكذا كان مع ضحايا جسر البحر الميت، وقضية نقص الاكسجين في مستشفى السلط، وحوادث اخرى كثيرة كان آخرها وفاة الطفلة البريئة المرحومة لين في مستشفى البشير.
من جانب انساني، فهي جميعها حوادث مؤلمة نشعر بها، وتدعو الى القلق والتعاطف مع ذوي الضحايا، وأنه لا بد من المحاسبة، ولا بد أيضا، من تصحيح الأخطاء المؤسسية مهما كانت. وبالنسبة لحوادث المستشفيات، فلا جدال على ان القطاع الصحي العام والخاص، حقق انجازات متميزة على مدى السنوات الماضية، تجلت تفاصيلها في مواجهة جائحة الكورونا، وكان التعاون بين القطاعين العام والخاص في أفضل صورة.
ومع هذا، فإنه لا بد من الاعتراف بأن هناك قصورا من نوع ما، وهناك نقاط ضعف تتطلب المواجهة والمعالجة الحكيمة، وفي مقدمتها بالنسبة لمستشفيات البشير وغيرها، نقص الكوادر الطبية المتخصصة، وسوء توزيعها، وعدم وجود اخصائيين في الطوارئ.
للحوادث المتعلقة بحياة الانسان مباشرة، وقع مدوّ ينزعج له كل مواطن، ويهتز له كل ضمير حي، ولكن من منظور ادارة الدولة، هل المسألة مجرد خطأ شخصي من الاطباء؟ ام خطأ في المنظومة بكاملها؟ لخاصة وان الاحصاءات تشير الى ان 20 % من الحوادث تقع بسبب الاخطاء الفردية، و80 % منها بسبب الخلل في الادارة والمنظومة بتفاصيلها.
من جانب آخر، كم حادثة مشابهة تؤثر في حياة الناس، تقع في الوزارات والمؤسسات والقطاعات المختلفة، وتوصل المتأثر بها إلى فقدان معنى الحياة وبهجتها، ولا يسمع بها أحد، لكنها تؤدي الى نوع من الموت البطيء والصامت، ولا تظهر فيه الضحية مباشرة، لكن العطب فيه يمتد الى آلاف المواطنين، بل امكانيات الوطن وقوة الدولة؟
كم من مشروع استثماري تعطل وانسحب المستثمر، نتيجة التعقيدات أو اللامبالاة التي تعامل بها الموظف مع المشروع، وبذا ضاعت فرص عمل وراءها اطفال تبحث عن لقمة العيش؟ كم مزارع هجر ارضه لانه لا يجد الماء او العلاجات لمزروعاته، فماتت الارض ومن عليها؟ وكم مصنع اغلق ابوابه بسبب الخسائر وارتفاع كلفة الانتاج، او تعقيدات مفتعلة للحصول على رشوة او حصة، وعدم اكتراث المؤسسة المعنية،
وبالتالي سرح عماله وترك عائلاتهم دون دخل، لأنه لم يعد قادراً على الاستمرار؟ وكم سائح اردني فضل السياحة في تركيا أو مصر او اليونان، لانها اقل تكلفة من العقبة أو البحر الميت نتيجة لارتفاع كلفة الكهرباء وكلفة الخدمات، والتي تتحدث عنها المقالات والتقارير منذ سنين طويلة، وبذا حرمت آلاف العائلات من فرص عمل لمعيليهم، بكل ما يعنى الحرمان من فقر وجوع ومرض؟
نحن نميل دائماً الى التركيز على الخطأ الفردي، لأنه اسهل في الاتهام، واسهل في العقاب، ونتهرب من مواجهة الخطأ الجمعي في الادارة، والخلل المؤسسي الذي كثيراً ما يؤدي الى الخطأ الفردي.
وكما اشار وزير الصحة، هناك في وزارة الصحة خلل في الادارة، وسوء توزيع للكوادر الطبية، وترهل في الموظفين الإداريين، ونقص كبير في الاختصاصيين، وغياب لاستراتيجية مستقرة عابرة للحكومات، في عين الوقت الذي لدينا فيه بطالة في الاطباء والممرضين. هذا الخلل ليس مقتصراً على وزارة الصحة، بل إن الجزء الأكبر من الجهاز الاداري للدولة على الشاكلة نفسها.
لذا تتعالى النداءات، ابتداء من جلالة الملك وانتهاء بالمواطن البسيط منذ سنوات، بضرورة الاصلاح الاداري الحقيقي، وليس الوهمي أو الشكلي، كشرط لنجاح اي برنامج سياسي او اقتصادي، صحي أو سياحي او زراعي.
لكن من الواضح، ان المؤسسات لا تكترث بالإخفاقات التي تقع فيها، لانه ليس فيها موت ظاهر للعيان يستدعي الصدمة.
حين تصل نسبة الفقر الى 24 %، ألا يعني ذلك ان هناك مئات الآلاف من البطون الجائعة، والاطفال المحرومة، والمرضى الذين يعانون إلى درجة تقترب من الموت، فترتفع نسبة الانتحار؟ وحين تصل البطالة الى 25 %، ألا يعنى ذلك أن آلاف العائلات تعيش دون دخل، وتعاني من التعاسة والحرمان والبؤس وكأنها تموت ببطء؟
وحين تكون اسعار الادوية في الاردن ومنذ سنوات، هي الاعلى في دول المنطقة، نتيجة للأرباح المبالغ فيها، ونتيجة لعدم مراجعة الاسعار بشكل دوري وبانتظام من المؤسسة المسؤولة، ألا يعني ذلك مرضا دائما للآلاف الذين لا يستطيعون شراء الدواء أو موتا صامتا للكثيرين؟ وحين تصل نسبة فقر التعلم في الأردن بموجب تقارير “اليونسكو” 52 %، ألا يعني ذلك ان مئات الآلاف من الطلبة قد حكم عليهم بالفشل منذ الصغر، وبالتالي يجري دفعهم على طريق البؤس والمعاناة؟
وحين تنهار الطرق في كل شتاء برغم قلة الامطار، ألا يعني ان هناك من يستهين بحياة المواطنين، أكان المستهين مهندساً او مقاولاً او اداريا او مراقبًا؟ وحين يستغرق تنفيذ مشروع سنوات وسنوات، بكل الاغلاقات والتحويلات والحوادث التي تقع، وما يصاحبها من توقف الاعمال لآلاف المتاجر والمحلات، وبالتالي ضياع مصدر الدخل للجزء الأكبر منهم، ألا يعني ذلك عدم اكتراث بحياة المواطنين ومعيشتهم؟
وحين يظهر العجز المائي فجأة، وتهرول الوزارة الى استيراد المياه من عدو غادر وحاقد، بينما الجميع منذ سنين ينادي بتحلية المياه وتوليدها المياه بشتى الطرق، بما في ذلك انشاء السدود وحسن إدارتها وصيانتها، والاستمطار وتطوير منظومتها، اليس في هذا تعريض حياة المواطنين للخطر؟
وحين يكشف بأن سد الوالة قد اصابه الجفاف بسبب خطأ في التصميم أو في الإدارة، ومن المتوقع ان يتبعه سد الموجب، إذ قارب على الجفاف، وسد الملك طلال في اواخره، الا يعني ذلك الموت البطيء للزراعة والحيوان والنبات بل والإنسان؟ بعد ان ماتت مئات الآلاف من الاسماك في سد الوالة، والقائمة لا تنتهي.
واخيراً فإن إدارة مؤسسات الدولة، تؤثر بعمق في صميم حياة المواطن، ومتابعة الأخطاء الفردية والتركيز عليها فقط، وهو حق، باب ضيق للغاية. وفي الوقت نفسنه، فان التغاضي عن الباب الأوسع وهو الأخطاء المؤسسية، واللامبلاة لدى الموظف التي تجعل الخطأ أكثر احتمالاً وتكراراً وخطورة وانتشاراً، فيه موت بطيء وصامت للكثيرين، بخاصة الأطفال والمرضى والفقراء والفئات الهشة، وفيه قتل لإمكانات المجتمع، وتفتيت لسبل المعيشة لآلاف المواطنين، ويذهب ضحاياه الكثيرون، ولكن بدون ضجيج.
ان الأردن في وضع غاية في الصعوبة والتعقيد، نتيجة للتغيرات المناخية الكاسحة من جهة، والتلكؤ في اي اصلاح او تطوير اداري، يجعل الاجهزة قادرة على التعامل مع المستجدات المناخية او المائية او الاجتماعية او الاقتصادية من جهة ثانية، ومع متطلبات الحياة الكريمة من جهة ثالثة، وتجعل الموظف يشعر بالمسؤولية تجاه حياة المواطنين.
فهل تكون الحادثة الأخيرة جرس انذار لجميع مؤسسات الدولة، لأن تبادر كل مؤسسة ووزارة ودائرة الى وضع برنامج اصلاح يحافظ على حياة المتعاملين معها، أكانت الحياة بشكلها الانساني الصريح المباشر، او باشكالها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والمعيشية. فذلك هو مستقبل الوطن الذي يدرك خطورة ان يكرر اخطاءه المؤسسية ويغطيها بغطاء فردي يمكن ان يقع في اي مكان.