التخصصات في الجامعات وبلبلة الإشباع والركود

ظهرت نتائج الثانوية العامة (التوجيهي) بنسب نجاح جيدة. ومن هنا كان الإقبال على الالتحاق بالجامعات بأعداد كبيرة بلغت 65 الفاً، وهو أمر طبيعي. فالتعليم حق لكل مواطن من الطفولة وحتى الشيخوخة. وفي نفس الوقت أصدر ديوان الخدمة المدنية قوائم بالتخصصات “الراكدة ” و”المشبعة” و”غير المطلوبة” حسب تسمية الديوان. واشتدت دعوة الطلبة للالتحاق بالتخصصات التطبيقية والمهنية والتكنولوجية.. كل هذا في ظل بطالة مرتفعة تبلغ نسبتها 24.2 % للذكور و28.5 % للإناث للفئة بين 20 – 24 سنة وتصل بالمعدل العام الى %25.7 (5 أضعاف المعدل العالمي)، وبطالة للخريجين الجامعيين الذكور بنسبة 29 % والإناث %48 ومعدل نمو اقتصادي متواضع يبلغ 1.8 % وتزايد سكاني كبير، اذ تجاوز عدد السكان 11 مليون نسمة.
أما البطالة بين المتعلمين فتبلغ %27.8 للجامعيين و51 % بين حملة الثانوية فأعلى. وفي نفس الوقت هناك أكثر من 423 الف طلب توظيف لدى ديوان الخدمة المدنية تحتاج الى 8 سنوات لتوظيف مقدميها حسب تقرير الديوان.
ان التركيز المتكرر على تخصصات مغلقة وتخصصات مشبعة وأخرى راكدة هو في الواقع هروب من “المشكلة الحقيقية التي نعيشها والمتمثلة في هلامية سوق العمل بسبب الاعتماد على الاستيراد بدل الانتاج، وغياب البنية الصناعية التكنولوجية الحديثة للاقتصاد الوطني، وتباطؤ الجامعات في التغيير والتطوير حسب متطلبات المرحلة العلمية والتكنولوجية التي فرضتها الثورات الصناعية والتي جعلت التصنيع العمود الفقري لأي تقدم.
ان الاشكال الذي يواجهه مجتمعنا ليس في التخصصات ذاتها وانما في جانبين آخرين: الأول عدم قدرة الاقتصاد الوطني على توليد فرص عمل جديدة تتناسب مع قوى العمل المستجدة. والثاني تلكؤ المؤسسة التعليمية في إعداد وبناء شخصية الطالب، وتمكينه من مهارات ومعارف العصر مهما كان التخصص. فالمهارات أصبحت اليوم مطلوبة قبل الشهادات.
لقد آن الأوان ان تتجه كل من الحكومة والجامعات بالتعاون مع القطاعات الأخرى الى تغيير المفاهيم ومناهج العمل. فالطالب الجامعي في الأحوال الطبيعية يدرس تخصصا معينا لأنه يميل الى ذلك التخصص، ويمكن ان يبدع فيه. وهذا حق له، وليس من المفيد ان يدرس الطلبة موضوعات لا يريدونها لأن فرص التميز والإبداع ستكون ضئيلة. كما أنه ليس بالضرورة القطعية ان يعمل الخريج في نفس تخصصه، وإنما يمكن أن يعمل حسب قدراته ومهاراته واهتمامه في مجالات أخرى.
وهنا تكون مسؤولية الجامعة والمعهد وضع البرامج اللازمة لتأهيل الطالب لصناعة مستقبله بنفسه وليس انتظار وظيفة جاهزة من ديوان الخدمة المدنية أو غيره. وبالتالي يجب النظر إلى التخصص الذي يختاره الطالب في الجامعة لتحقيق رغبته وتطلعاته باعتبار أنه مسار أو رحلة معرفية وسلوكية ومهاراتية لبناء العقلية العلمية، والتمكن الذهني والنفسي من حل المشكلات، تمهيداً للانطلاق الى الحياة العملية.
وتدل الاحصاءات الدولية على ان %41 من خريجي الجامعات في الولايات المتحدة يعملون في وظائف لا تحتاج الى درجة جامعية، او يعملون بوظائف اقل من مستواهم الجامعي، بينما نجد في بريطانيا ان 50 % من الخريجين لا يعملون في تخصصاتهم ومعظم الدول على نفس الشاكلة.
إن اقتصادنا الوطني بوضعه الحالي المفرط في الاستيراد، وضآلة المشاريع التي يضمها لا يستطيع توليد أكثر من 25 – 30 ألف فرصة عمل سنويا، في الوقت الذي يحتاح الأردن سنوياً الى 100 الف فرصة عمل جديدة.
كما أن استيراد السلع والخدمات يعني إضاعة فرص عمل في البلاد. وكل استيراد بقيمة 35 – 50 الف دولار يعادل فرصة عمل أو وظيفة. ونحن تتعدى مستورداتنا السنوية 20 مليار دولار يمكن انتاج %35 منها. ولا سبيل للتغيير الا بالمشاريع الانتاجية الجديدة وتوجيه الاستثمارات بهذا الاتجاه.
ان الذي خفض البطالة في مصر الى 7.4 % العام 2021 بعد ان كان معدلها على مدى العشرين سنة الماضية %10.75 هو استعادة التصنيع والمشاريع الكبرى التي تقوم بها الدولة بقيادة القطاع العام، ولم توقف الجامعات المصرية تخصصاتها المسماة عندنا راكدة أو مشبعة.
ان التعليم المهني التكنولوجي بمستوياته المختلفة يتطلب اقتصاداً صناعياً انتاجياً. ومن هنا فإن تحول الطلبة من التعليم الجامعي الى التعليم التكنولوجي، والوقوف عند هذه النقطة دون انشاء المشاريع، لن يحل المشكلة لأن البطالة ستستمر في التفاقم، ولكن سيكون رعاياها من خريجي الكليات المهنية.
ومن جانب آخر فإن تجميع الخريجين في تخصصات محدودة لا تتجاوز 40 أو 50 أو 100 تخصص حسب قوائم ديوان الخدمة المدنية سيؤدي الى اختناق تلك التخصصات خلال 4 الى 6 سنوات لتصبح مشبعة وراكدة. هذا اضافة الى ان جزءا كبيراً من الخريجين سيكون تخصصهم لا يتفق مع رغباتهم ومواهبهم وقدراتهم بكل السلبيات التي ترافق ذلك.
ان الأزمة التي نحن بصددها ليست مجرد ازمة تخصصات، أو ازمة طلبة، إنها ازمة اقتصادية اجتماعية تعليمية بامتياز. والطريق للحل يتطلب تناول الجوانب المختلفة للأزمة. وهنا لا بد من تبيان عدد من المسائل الجوهرية ينبغي ان تكون مرتكزاً لبرنامج وطني شامل أولاً: ان الاقتصاد غير الصناعي بالضرورة غير قادر على توليد فرص عمل إلا بشكل ضئيل مهما كانت التخصصات الجامعية. الامر الذي يستلزم التحول نحو الاقتصاد الصناعي التكنولوجي الحديث. ثانيا: يجب ان ينتهي انسحاب القطاع الرسمي من الميدان الاقتصادي والاكتفاء بإلقاء الموضوع على القطاع الخاص والحديث عن المستثمرين والاستثمار دون مشاركة فعلية. ثم انه لا بديل للمؤسسات الرسمية من الدخول في مشاريع جديدة بالشراكة مع المجتمع ومع القطاع الخاص ولو لفترة زمنية محدودة ربما 15 أو 20 سنة ريثما ينطلق الاقتصاد الوطني باتجاه النمو الاسرع.
ثالثا: العمل على رفع المستوى التكنولوجي للقطاعات المختلفة من زراعة الى سياحة الى نقل الى خدمات اخرى، لتكون مقبولة للشباب والشابات حتى لو كانوا جامعيين. ونرى امثلة ذلك في جميع الدول الصناعية، وكما هي لدينا في المطاعم الحديثة وسيارات التطبيقات الذكية وغيرها. ويتطلب ذلك تكليف مجموعات من المهندسين والاكاديميين والعاملين في القطاع بالدخول في التفاصيل التكنولوجية ووضع الخطط اللازمة للتطوير.
رابعاً: تقليص الفوارق في الرواتب والدرجات بين خريجي الكليات التكنولوجية المهنية وبين خريجي الجامعات حيث نجد ان هذه الفوارق في الدول الصناعية ضئيلة.
خامساً: ان تغير الجامعات من نمطيتها الاكاديمية التقليدية باتجاهات ثلاثة: تبدأ بالتركيز على المهارات بأنواعها الرقمية والحياتية واللغوية والتخصصية والثقافية ولجميع التخصصات دون استثناء، وأن تتوسع في تداخل او ازدواج التخصصات، والتخصصات الجديدة، وتنتقل الى التخصص المزدوج .
سادساً: ان تصبح “الريادية وادارة المشاريع” مادة الزامية في جميع التخصصات ويجري تدريسها خلال السنوات الثلاث الأخيرة من الدراسة الجامعية.
وأخيراً فإن بطالة الخريجين لدينا تغطي الجزء الأكبر من التخصصات بما فيها الهندسة والطب والانسانيات الأخرى. ان فرص العمل لا تعتمد على ماذا درس الطالب ولكن تعتمد على ماذا يعرف وما هي المهارات التي لديه وفي أي اقتصاد سوف ينخرط. وبالتالي فإن تصنيف التخصصات حسب فرص التوظيف لدى ديوان الخدمة المدنية فيه ابتعاد عن جوهر المشكلة، إضافة إلى الحيود عن متطلبات التعليم للقرن الحادي والعشرين وعما يفرضه المستقبل من تأهيل الخريج للتميز والإبداع.