تتوالى أرقام النمو الاقتصادي عاما بعد عام لتتراوح صعودا وهبوطا حول (2 %)، وهو من المعدلات الضئيلة على مستوى الدول النامية. هذا في الوقت الذي يبلغ معدل النمو السكاني الطبيعي (2.6 %) والنمو السكاني الفعلي أكثر من (4 %). ونتيجة لهذه الضآلة في النمو والتي تعني في جوهرها تراجع دخل الفرد وتراكم ارتفاع الأسعار وتفاقم البطالة حتى تعدى معدلها (19.5 %) في حين أن المعدل في الأقطار العربية (15.2 %) والمعدل العالمي للبطالة (7.9 %)، ويعبر هذا الوضع حين يستمر لعدة سنوات بصريح العبارة، عن فشل في إدارة الاقتصاد.
وعند مقارنة دخل الفرد في الأردن محسوباً بالقوة الشرائية مع دخل الفرد في مصر وتركيا، نجد أنه الأدنى لدينا (9) آلاف دولار ومصر (12) ألف دولار وتركيا (28) ألف دولار. وهذا حين يقترن بالغلاء له تأثير سلبي كبير على المعيشة اليومية للمواطن، وعلى الاستثمار، وعلى تنافسية المنتجات الوطنية. ورغم الاقتراحات والأفكار والدراسات والاستراتيجيات العديدة والرسائل الملكية المتوالية بضرورة معالجة الموضوع الاقتصادي بجدية، إلاّ أن الإدارات المتعاقبة وجدت عذرا كبيرا كافيا وهو “عدم استقرار المنطقة والمناطق الملتهبة حولنا”. وكأنه لا شيء يمكن عمله حتى تستقر المنطقة ويعمها السلام. وآذاك يكون المواطن قد فقد توازنه وآماله وصبره وفرصته في الحياة الكريمة.
لا تريد الإدارات أن تعترف بأن المسألة الاقتصادية يمكن حلها، ولكن الأزمة هي أزمة إدارة من جانب وإرادة من جانب آخر واستمرار ومثابرة من جانب ثالث.
فالمتأمل في الاقتصاد الوطني يجد أن العديد من الاشكالات المعيقة للنمو الاقتصادي ولجذب المستثمر الوطني والأجنبي لا تحتاج إلى صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي ولا إلى قروض ومنح من كل اتجاه، ولا إلى فرض الضرائب والرسوم، وإنما تحتاج إلى إدارة تدخل بالتفصيل والتشارك لحل هذه المشكلات ليس على مستوى قمة الهرم الإداري التي لا يتعامل معها المواطن، وإنما على مستوى القاعدة، أي لدى الموظف العادي في كل دائرة وشعبة وقسم.
وهنا يمكن أن نشير إلى النقاط التالية: أولاً: هروب رأس المال ذلك أنه نتيجة للتعقيدات، واللامبالاة، وارتفاع الأسعار، وانفلات الاقتصاد على الاستيراد غير المنضبط، وتجاهل الإدارات الحكومية على المستويات الدنيا والمتوسطة لمشكلات المستثمرين والمنتجين، فإن العديد من المشاريع والرساميل قد توقفت عن العمل، أو غادرت إلى منطقة أكثر مرونة وسهولة. إذ لا يعقل أن تغلق آلاف المصانع أبوابها خلال السنوات الماضية ولا تعلن الحكومة حالة الطوارئ الاقتصادية لحل المشكلات الخاصة بها. ثانيا: الشراكة مع القطاع الخاص ما يزال الموظف الحكومي يعتقد أن المواطن في خدمته وليس العكس. وما تزال الإدارات تظن أنها يمكن أن تدير الاقتصاد وتنميه بمفردها بعيدا عن القطاع الخاص. وتخلق من آن لآخر مجالس للشراكة ولكنها شراكة وهمية وصورية، أما استجابة لطلب المؤسسات الدولية أو للزينة أو لمآرب أخرى. من يجب أن يؤمن بشراكة القطاع الخاص ودوره الأساسي في بناء اقتصاد وطني قوي هو ليس رئيس الوزراء والوزراء فقط وإنما الموظف البسيط (مع الاحترام) في وزارة الصناعة والزراعة
والأشغال والسياحة والأوقاف وغيرها. وعلى كل وزارة ومؤسسة رسمية العمل بجد ومثابرةعلى ايصال هذه الرسالة مكتوبة ومفصلة للموظفين على مختلف المستويات بمفاهيمها وخطواتها مع كافة الإجراءات ومعايير الأداء اللازمة. ثالثاً: كلفة الاستثمار والفوائد إن ترتيب الأردن في كلفة الاستثمار يضعه في المنزلة (104)، والفوائد البنكية لصغار المقترضين مرتفعة تماما تتعدى مع توابعها (11 %)، والفرق بين فائدة الاقتراض والإيداع تتجاوز (7 %). وهي أرقام مرتفعة بالنسبة لدول العالم ومن شأنها أن تخيف المستثمرين وتبعدهم عن الاستثمار في مشاريع جديدة سواء كانوا مستثمرين وطنيين أو أجانب. ومنذ أكثر من (40) عاما والحكومة تتحدث عن نافذة استثمارية واحدة، ومع هذا ما يزال المستثمر بحاجة إلى أشهر حتى ينهي الإجراءات الرسمية بين الوزارات والدوائر المختلفة، والتي لتعددها وتعقيداتها نمت فيها بؤر للفساد الصغير أو الكبير. لا يقبل ولا يعقل أن يعاني و”يدوخ” المستثمر أشهرا وأحيانا أكثر من سنة ، بينما هناك بلدان كثيرة لا يحتاج المستثمر فيها سوى أيام معدودة لينهي إجراءاته الرسمية ويباشر العمل في المشروع. هذا ونحن نتحدث عن الاقتصاد الرقمي والحكومة الإلكترونية. رابعاً: التشريعات. فهي غاية في التعقيد وعدم الاستقرار، وعدم مراعاة المستثمر الوطني، على الرغم من إنشاء مناطق حرة وأخرى صناعية وثالثة غير حرة. في حين أنه لا داعي لهذه التقسيم المفتعل.
ان الإجراءات يجب أن تكون سهلة ومحفزة للاستثمار ومشجعة للمشاريع وبنفس الامتيازات للمستثمر الوطني أو الأجنبي في طول البلاد وعرضها، وليس في أماكن مغلقة أصبحت تعمل خارج الاقتصاد الوطني، وتستورد العمالة من كل مكان، في الوقت الذي هناك أكثر من (300) ألف مواطن باحث عمل. خامسا: الغلاء وهو عائق أمام أي نمو اقتصادي. ومع هذا فجزء كبير من هذا الغلاء مفتعل وغير مقنع، كما وجدنا في موضوع الأدوية. ورغم الأرقام الدولية التي تبين كل هذه التفاصيل لم تساءل الإدارات نفسها: “لماذا يستثمر صاحب المشروع في بلدنا إذا كان الدولار الذي ينفقه لدينا، ينفق أقل من نصفه في تركيا وما يقرب من ثلثه في مصر لنفس الغاية.
لم تفكر الإدارات بأن هذا التصعيد والتخفيض الشهري في أسعار الطاقة مثلا يجعل الأسعار ترتفع ولا تتخفض، ولم تفكر بتأجير الأرض بأجور رمزية للمستثمر ولمدة كافية، وآذاك تعفيه من وضع (40 %) أحيانا من رأسمال المشروع من اجل الأرض. سادسا: ترحيل المشكلات. لقد أصبح نمطاً سائداً ترحيل أي مشكلة إلى الآخرين، أما بحجة عدم وجود مخصصات، أو البحث عن شريك استراتيجي، أو تمويل أجنبي، أو إن الأمر رهن الدراسة. ولذا استمرت مكرهة بركة البيبسي مثلا (50) عاما ولدى الأردن (32) جامعة و(168) ألف مهندس ومئات المقاولين الجيدين. وكذلك النافذة الاستثمارية، وإعادة تنظيم المؤسسات المستقلة، ونستعين بشركة أجنبية(دون تعصب) لوضع مناهج الصف الرابع والأول وقد انطلق التعليم في الأردن منذ (80) عاما وغير ذلك الكثير .سابعا : صغار المدخرين والمستثمرين، أصبح الاعتماد على التمويل الأجنبي مسيطرا على تفكير كل دائرة، إبتداء من أصغر المشاريع وانتهاء باكبرها. وأصبح المواطن لا يرى أجمل من ابتسامة المسؤول حين يوقع اتفاقية قرض أو تمويل أجنبي جزئي أو كلي. أما التفكير بإنشاء تعاونيات وشركات مساهمة عامة لصغار المدخرين والمستثمرين والصناديق الوطنية بمساهمة الحكومة
و تمويل وإقامة المشاريع فهذا لا تقترب منه الإدارات.
وأخيرا فإن النمو الاقتصادي الجيد نجحت فيه دول كثيرة، وهو ممكن بل ضروري وحتمي ولكنه “يتطلب إنتاجية عالية نفتقدها، وإدارة حصيفة تشعر بالمسؤولية من القاعدة إلى القمة. وتتطلب تشريعات مشجعة بسيطة مستقرة وفي كامل المواقع. وتتطلب الإفادة من الاستقرار السياسي واستثمار رأس المال البشري من خلال تصنيع الاقتصاد ومدخرات صغار المدخرين، والقضاء على أسباب الغلاء المفتعل في إطار من الشفافية والمساءلة والشراكة الحقيقية العملية مع جميع الأطراف. وتتطلب القدوة من الحكومة
والشعور بسرعة الأحداث وصدمة الأرقام، بعيدا عن الاسترضاء والتكسب والمكافآت المستفزة والاستنفاع.
إن الملك يطالب بتنمية الاقتصاد، والشعب يطالب بذلك، والمؤسسات المالية الدولية تجتمع للحديث عن القروض، لا لبناء الاقتصاد الوطني فذلك مسؤولية الوطن ذاته، والمواطن ساعة الصدق والجد والعقل مستعد للتضحية، والخبراء الوطنيون موجودون في كل مكان، ولكن لسان حال الإدارات عمليا وعلى أرض الواقع يقول ما قاله الطفل البريء في الأغوار:”أنا ما إلي دخل”.