يأتي تصريح رئيس الوزراء عمر الرزاز حول اكتشافات جديدة ومشجعة للغاز في حقل الريشة؛ ليؤكد، ومهما كانت التحفظات تجاهه، بأن الحاجة إلى الغاز الإسرائيلي ليس لها ما يبررها، وأن مجلس النواب كان على حق حين انتصر للإرادة الشعبية واتخذ قراره قبل أسابيع، برفض اتفاقية الغاز المشترى من إسرائيل (بصريح العبارة)، وليس من شركة نوبل اينرجي التي تتغطى بعباءة أميركية، واسم غاية في الخداع “Noble Energy” على الطريقة التقليدية للصهيونية.
لقد وقعت رسالة النوايا بين شركتي: الكهرباء الوطنية المملوكة للحكومة ونوبل اينيرجي عام 2014، ووقعت الاتفاقية عام 2016 لشراء 300 مليون قدم3 يوميا ولمدة 15 عاماسنة والإلتزام بدفع الثمن مليار دولار سنويا سواء سحبت الكمية بكاملها أم لم تسحب.
واستغرق الأمر 5 سنوات حتى يتمكن مجلس النواب من الدخول في الموضوع بتفصيل وصراحة، على الرغم من أن نص الاتفاقية ما يزال سرياً ولم يوزع رسمياً على أعضاء المجلس، أو على الأقل اللجنة القانونية ولجنة الطاقة.
وخلال السنوات الماضية تفاقم الارتباك والخلخلة في قطاع الطاقة إلى درجة كبيرة، كان آخر شاهد عليها القرار بإيقاف التوسع في الطاقة المتجددة والتي لم تتجاوز بعد 5% من خليط الطاقة، وفي الوقت ذاته البحث عن دولة تستورد الكهرباء من الأردن. هذا في الوقت الذي التزم الأردن باستيراد الغاز من 3 مصادر: إسرائيل ومصر وشركة شل.
وقبل توقيع اتفاقية الغاز الذي تبيعه إسرائيل، كانت شركة بريتش بتروليوم تنقب عن الغاز في الأراضي الأردنية منذ سنوات، وأنفقت في ذلك ما يزيد عن 200 مليون دولار وكانت النتائج مشجعة تماما.
وصرح وزير الطاقة والثروة المعدنية المهندس علاء البطاينة العام 2012 بأن الأردن سيبدأ بتصدير الغاز عام 2020. وفجأة في مطلع عام 2014 انسحبت بريتش بتروليوم دون سابق إندار. وبعد 3 أشهر فقط من انسحابها تم توقيع رسالة النوايا مع نوبل اينيرجي، على الرغم من أن ميناء الغاز السائل كان قد بدأ بالعمل، بعد تأخره بشكل غير مبرر مدة سنتين كاملتين كانت الخسائر المترتبة على هذا التأخير أكثر من مليار دولار.
والأسئلة التي لم تجد إجابة رسمية لها حتى اليوم هي: “أين ذهب تصريح وزير الطاقة عام 2012؟ ولماذا جرى تأخير ميناء الغاز السائل؟ ولماذا انسحبت بريتش بتروليوم فجأة؟؟؟”.
وبالإضافة إلى الجانب الوطني الذي له كل الاحترام، فإن السؤال: هل هناك مبررات موضوعية لدى مجلس النواب لرفض اتفاقية الغاز؟ أم أن الأمر مجرد مداخلات نيابية لا ضرورة لها؟.
إن جميع الحقائق والأرقام تدل على أن هناك مبررات قوية لهذا الرفض وعلى النحو التالي:
أولاً: في القانون: تنص المادة (33/ب) من الدستور على أن كل اتفاق يتعلق بالمرافق العامة أو يؤثر على المواطن أو يترتب عليه التزامات مالية للدولة يجب أن يوافق عليه مجلس النواب. وتتذرع الحكومة بأن الذي “وقع الاتفاقية شركة وليست مؤسسة حكومية”. وهذا فيه استهانة بالعقول والمسؤوليات لا مبرر لها. فالشركة الموقعة “شركة الكهرباء الوطنية” مملوكة بالكامل للحكومة وهي بهذه الصفة واحد من أذرع الحكومة بالتأكيد. وأي التزامات على الشركة هي التزامات على الحكومة، وتعود بها على المواطن من خلال فاتورة الكهرباء وفرق أسعار الوقود.
هل تستطيع الشركة أن تضع على نفسها التزاما بمقدار مليار دولار سنوياً يذهب 33% منه للحكومة الإسرائيلية ولمدة 15 عاماً دون موافقة الحكومة؟، هل تستطيع شركة تملكها الحكومة أن تضع على نفسها شرطاً جزائياً بـ1.5 مليار دولار إذا أرادت الانفكاك من الاتفاقية دون موافقة الحكومة؟، هل تستطيع شركة تملكها الحكومة أن تستورد الغاز كمادة أساسية وتحتكر استيرادها ويدفع المواطن الثمن وتؤثر على الاقتصاد الوطني بكامله دون موافقة الحكومة؟، بالتأكيد لا؟.
لقد أوشك “الجانب الآخر” على الانتهاء من مد أنبوب الغاز في الأراضي الأردنية، وبعد استملاك الأراضي من أصحابها الأردنيين باسم المصلحة العامة، وبتمويل من الحكومة، فهل تم ذلك دون علم الحكومة ودون موافقتها؟ هل تم كل ذلك دون قرارات من مجلس الوزراء بالموافقة على الالتزامات الواردة في الاتفاقية؟ لا أحد يصدق ذلك.
أما القول بأن الاتفاق بين الشركتين لا يلزم الحكومة بموجب قرار لجنة تفسير الدستور عام 1962 فهي حجة غاية في الضعف. إذ لم يتحدث ذلك التفسير عن شركات تملكها الحكومة، وإلاّ تستطيع الحكومات أن تختبئ سياسياً وإدارياً وراء الشركات المملوكة لها وتفعل ما تريد.
إن اتفاقاً مع شركة حكومية محتكرة وينعكس أثر ما تستورده مباشرة على المواطن وعلى الصناعة وعلى مرافق الاقتصاد الأخرى لا يمكن أن يكون خارج نص المادة (33/ب)
ثانياً: في المبررات الاقتصادية:إذا أخذنا الحالة اليوم نجد أن 92% من الكهرباء يتم توليدها من الغاز السائل الذي يتم استيراده بموجب عقد طويل الأمد مع شركة شل. وإذا نظرنا إلى أسعار الغاز السائل في السوق الدولي نجد أن متوسطها 3 دولار للوحدة ،وهي أسعار مستقرة إلى حد كبير، ولم تعد تتأثر كثيرا بأسعار النفط منذ أكثر من عشر سنوات.
إضافة إلى ذلك إن الحكومة قد وقعت اتفاقاً مع مصر من خلال شركة الفجر العربي لاستيراد الغاز المصري. فما هو مبرر وجود الغاز الإسرائيلي؟ يقول المدافعين عن الاتفاقية إن الغرض تنويع مصادر الطاقة.. هل يعقل أن لا تذهب الدولة إلى تنويع المصادر بالتعاقد مع بلد عربي كالجزائر أو قطر أو السعودية؟ وتذهب إلى طرف غادر و مخادع ،لا زال يمثل عدوا متربصا (رغم المعاهدة التي لم يحترمها)، مرفوضا جماهيرياً، ويتآمر ضد الأردن وفلسطين بل وسورية ولبنان، ويحاول الاستيلاء على المسجد الأقصى؟، ويسخر أمريكا للضغط على الأردن في كل مناسبة؟، مقابل ماذا؟.
وكيف ستتعامل الحكومة مع التزاماتها مع (3) مصادر لتأخذ منها الغاز؟، وكيف ستتعامل مع شركات توليد الكهرباء الملزمة بشراء إنتاجها؟، بما فيها شركة العطارات التي تستخدم الصخر الزيتي؟. هذا والحكومة ملزمة باستيراد ما يعادل مليار دولار من كل مصدر إضافة إلى الصخر الزيتي؟ من سيدفع هذه المبالغ سوى المواطن؟.
وهل يعقل أن تضع الحكومة على نفسها هذه الالتزامات ولديها فائض في الاستطاعة التوليدية منذ اليوم؟، ثم تبحث عن بلد تستورد الكهرباء من الأردن. من الذي سوف يستورد الكهرباء من الأردن وبأية أسعار؟، وبأية شروط؟.
ثالثاً: ارتباك قطاع الطاقة، لم يمر قطاع الطاقة بحاله من الارتباك كما هو اليوم. فاللاعبون في الميدان خمسة ليس بينهم تشبيك حقيقي.
الأول: هيئة الطاقة النووية التي تريد أن تلزم الأردن بمشروع لا مبرر له اقتصادياً ولا فنياً ولا استراتيجياً وتزيد كلفته عن (10) مليارات دولار يولد (2000) ميغاواط في الوقت الذي يبحث الأردن اليوم عن مشترين للكهرباء.
الثاني: اتفاقيات الغاز السرية مع إسرائيل والتي لم يناقشها أحد ولا أعلنت التفاصيل حتى للجان النيابية ولا أحد يستطيع التدخل فيها، وتم تمديد خط الغاز دون أية تفاصيل.
الثالث: هيئة تنظيم قطاع الطاقة وهي التي تكاد تسيطر على إدارة الشؤون الفنية للطاقة والمعادن.
الرابع: وزارة الطاقة وهي ليس لها سلطة على المشاريع النووية ولا على الغاز المشترى من إسرائيل.
الخامس: المواطن والقطاعات الاقتصادية وهذه أضعف الحلقات وعليها مكرهة أن تدفع ثمن أخطاء الآخرين.
كل هذا، وأزمة الطاقة بالنسبة للمواطن لم تتغيرّ. فأسعار الكهرباء متزايدة، وأسعار المحروقات تتبع الأسواق الدولية، والصناعة تشكو وتتعثر بسبب ارتفاع كلفة الطاقة، وقطاع النقل المستهلك الأكبر للطاقة على حاله دون تغيير: “نقل فردي وغياب للنقل العام المنتظم وغياب للسكة الحديد التي تربط البلاد بعضها ببعض”.
ويكلف النقل المواطن (17%) من دخله مقابل أقل من (5%) في الدول المتقدمة، هذا إضافة إلى وجود استطاعة توليدية زائدة تلتزم فيها الحكومة أيضاً بشراء كميات كهرباء سواء أخذتها أم لم تأخذها.
وكانت وزارة الطاقة قد اقتربت من موضوع الطاقة المتجددة اقتراباً خاطئاً حين ركزت على التعاقد مع شركات تنتج كميات كبيرة (نسبياً)، في حين أهملت التركيز على الوحدات الصغيرة للبيوت المتفردة سواء لتوليد الكهرباء أو تسخين المياه، كما فعلت قبرص مثلاً. علماً بأن الوحدات المنزلية لا تكلف الدولة شيئاً لأن المواطن هو الذي يدفع الكلفة ولا تحتاج الحكومة إلى إنشاء “الممر الأخضر” وغيره من الإضافات المكلفة.
رابعاً: الأمن الاستراتيجي: هل يمكن لدولة أن تسلم مصدراً حيوياً للاقتصاد والمواطن، بل ولكل شيء وهو الطاقة تسلمه إلى طرف مخادع يحلم بالتوسع على حساب الأردن؟، ويسعى إلى طرد السكان الفلسطينيين خارج حدود بلادهم؟، ويسعى إلى الاستيلاء على الأراضي العربية المجاورة له؟، ويعمل ليل ونهار على تهويد القدس بأماكنها المقدسة ووصايتها الهاشمية؟، ويستقوي بالولايات المتحدة الأمريكية على الأردن والدول العربية الأخرى؟، ويتجاوز القانون الدولي ويمارس الاضطهاد العنصري ضد الشعب الفلسطيني؟.
هل يمكن تسليمه مصدراً من مصادر الطاقة؟، أي أمن استراتيجي سيكون لدى الأردن إزاء الخداع والمراوغة الصهيونية الإسرائيلية؟، واستعمال الغاز وسيلة للضغط على الأردن..؟.
إذا اعتمدت الصناعة الأردنية والكهرباء الأردنية على الغاز الإسرائيلي هل يمكن وضع حد لأي عدوان تقوم به؟، وهي في كل لحظة سوف تضع الأردن بين خيارين: السكوت عن ما تقوم به إسرائيل أو قطع الغاز؟، إن أولى قواعد أمن الطاقة التي يدرسها الطلاب في الجامعة إن مصادر الطاقة يجب أن تكون وطنية ما أمكن، ومن مصادر مضمونة ومستقرة ومستمرة وغير خلافية، وهو ما لا يتحقق في حالة الغاز القادم من إسرائيل.
خامساً: الجانب السياسي: ليس سراً إن توقيع الاتفاقية جاء نتيجة لضغط أمريكي شديد، تنفيذاً لنظرية نتنياهو “إن السلام الاقتصادي والمشاريع المشتركة هي التي يجب العمل عليها، في حين يجب ترك السياسة جانباً إلى أن ينساها العرب بمن فيهم الفلسطينيين”.
ولو كان هناك نوايا طيبة لدى إسرائيل لما ذهبت إلى واشنطن وطلبت منها الضغط على الأردن. ولكن مقابل ماذا؟ ومع هذا، فالجميع يتفهم ذلك.
وهذا بالضرورة يستدعي أولاً: عرض الموضوع على مجلس الأمة لاتخاذ القرار المناسب (وهذا تتفهمه كل دول العالم بمن فيهم الأمريكان)، وثانياً: أن يكون الفريق المفاوض على درجة كبيرة من الحنكة السياسية والقانونية والفنية والاقتصادية، وثالثاً: أن تكون الاتفاقية معلنة وبنودها واضحة للبرلمان ولذوي الاختصاص والمواطن.
إن مجرد سرية الاتفاقية تبعث في النفوس كل الشكوك والارتياب والتخوّف.
إن الالتزام بالطريق الدستوري والقاضي بعرض الاتفاقية على مجلس الأمة، من شأنه أن يمنح المفاوض الأردني القوة، وليس الضعف كما يتوهم البعض. إن لمجلس الأمة كل الحق بالنظر في الاتفاقية بكل الحيثيات والتفاصيل اللازمة. وعلينا أن نتذكر دائما:”أن أضعف الدول أمام الضغوط هي التي لا ترجع إلى مؤسساتها الدستورية”.
وأخيراً فإن الرجوع والمراجعة اليوم أفضل مئة مرة من الاستمرار، ووضع الأردن رهينة للابتزاز الإسرائيلي، الذي لا يؤمن له جانب ابدا اليوم وفي المستقبل.
إن البدائل كبيرة والخيارات متاحة ويجب أن تبدأ أولاً بالتماسك الوطني، وثانيا: الإصلاحات العاجلة، وثالثاً: تحريك الاقتصاد باتجاه الإنتاج والتصنيع، ورابعاً: إعادة التماسك لقطاع الطاقة والعمل على البدائل الوطنية والعربية بعيدا عن إسرائيل، وإخراجه من حالة الضعف والارتباك. وخامساً: اكتساب ثقة المواطن من خلال التقيد بالدستور والقانون والاعتماد على العلماء والخبراء والشفافية في القرار.