(1)
في وقت تمعن فيه إسرائيل بتوسيع احتلالها للأراضي الفلسطينية، وتتوحش في القتل والتدمير ضد الشعب الفلسطيني، وتتحايل في المصادرة والتخريب بدموية نازية عمياء، وفي الوقت الذي تقصف فيه مواقع في سورية ولبنان، وتقتحم القرى الفلسطينية ليصبح معدل القتل 3 فلسطينيين يوميا، وفي الوقت الذي تنهال فيه قوات الشرطة الإسرائيلية على المصلين في الجامع الأقصى بالضرب بالهراوات وتقييد أيدي وارجل الكثيرين منهم، حتى يتمكن المستوطنون من التجول في الأقصى، والقيام بتمثيليات الصلاة والطقوس اليهودية، وفي الوقت الذي تمنع فيه المسيحيين الفلسطينيين من كنيسة القيامة
ومهد السيد المسيح، فإن احداً لا يسمع من البيت الأبيض الأميركي والاتحاد الأوروبي سوى عبارات فاترة مثل ” دعوة الطرفين للتهدئة”، و”دعوة الجانبين إلى عدم التصعيد”.
وكأن المطلوب من الضحية الفلسطيني أن يكون هادئا إزاء المستعمرالإسرائيلي مهما بلغت وحشيته وتطاوله على المقدسات وعلى الإنسان. أي منطق لدى دول الاتحاد الأوروبي واي رياء؟ وأي انصياع للتأثير الصهيوني في بلدان تدعى الديمقراطية وتتمظهر بالإنسانية؟.أين حقوق الإنسان وأين اتفاقيات جنيف وأين المواثيق والمعاهدات الدولية؟ لا إجابة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. وفي اللحظة التي ينطلق فيها شاب فلسطيني ليوجه ضربة موجعة للجلاد انتقاما للضحايا الابرياء تصحو أميركا وأوروبا الرسمية من غفوتها، لكي ينددوا بالعمليات الإرهابية وليؤكدوا أن من ” حق إسرائيل ان تدافع عن نفسها”.. اما أن يدافع الفلسطينيون عن انفسهم وعن أرضهم وحريتهم وحقوقهم ومقدساتهم فهذا في العيون الأوروبية الأميركية إرهاب. حتى حصار غزة وتحويلها إلى سجن كبير لأكثر من 15 عاما هو في عيونهم دفاع عن النفس الإسرائيلية.
(2)
كيف يمكن للمعتدى عليه ان يسترد حقوقه إذا كان كل ما يقوم به المعتدي مسكوت عنه، حتى لو كان قتل مواطنة أميركية سحقا بالجرافات الإسرائيلية كالصحفية راشيل كيوري لأنها كانت تساند الفلسطينيين في غزة؟
إن العقل الاستعماري و ثقافة الإمبريالية والتسلط، منذ انطلاق الاستعمار وحتى اليوم، لم تتغير لدى المؤسسات الرسمية الأوروبية والأميركية العميقة. كان جوبلز بوق الدعاية النازية يبرر فظائع القوات الألمانية المحتلة لبولندا والنمسا وغيرها من الدول الأوروبية بقوله “نحن ندافع عن انفسنا ونحمي جنودنا”. وحين يقال له: ولكن المانيا دولة محتلة لكل من بولندا
والنمسا، فكان يجيب بغطرسة ومكر: “تلك مسألة اخرى”.
الاحتلال في العقل الأميركي الأوروبي” مسألة أخرى”. اما دفاع الإنسان عن وطنه ضد المحتل فهذا إرهاب، ويبرر لسلطة الاحتلال ارتكاب شتى أنواع الجرائم تحت إدعاء الدفاع عن النفس. فمنذ عام 1948 قتلت قوات الاحتلال أكثر من 150 ألف فلسطيني واعتقلت وأسرت أكثر من 1.2 مليون فلسطيني بينهم النساء والأطفال والشيوخ ودمرت أكثر من 400 قرية فلسطينية. تماما كما فعلت فرنسا حين قتلت مليون جزائري خلال احتلالها الجزائر كان ذنبهم الدفاع عن وطنهم، وكما فعلت الولايات المتحدة الأميركية حين قتلت 6.0 ملايين فيتنامي كانوا يدافعون عن بلادهم، وقتلت مليون عراقي لنفس السبب. وتماما كما فعلت بريطانيا حين تسبب الاستعمار البريطاني في مقتل 165 مليون هندي من عام 1880 حتى عام 1920 لتنهب بريطانيا في هذه الاثناء 45 تريليون دولار، وتماما كما فعلت ايطاليا بقتل 250 ألف ليبي كانوا يقاتلون من أجل الحرية لبلادهم وقتلت 600 ألف اثيوبي خلال احتلالها لاثيوبيا. لقد تسبب الاستعمار الأوروبي بمقتل 10 ملايين افريقي خلال الفترة 1885 الى 1920. كما سجل الاستعمار الأوروبي والأميركي إبادة شعوب بأكملها في افريقيا والقارتين الأميركيتين الشمالية والجنوبية. ومنذ عام 1950 حتى اليوم تسببت أميركا بقتل أكثر من 20 مليونا وتهجير ونزوح أكثر من 55 مليون إنسان في حروب وتدخلات كانت دول أوروبية شريكة في كل واحدة منها.
إن أسرلة الأرض والتاريخ الذي تعمل عليه إسرائيل بتأييد أميركي وسكوت أوروبي هو استمرار نمطي للمدرسة الاستعمارية. ففرنسا أعلنت الجزائر قطعة من فرنسا، وايطاليا أعلنت ضم الساحل الليبي. فلماذا تستنكر أوروبا أو أميركا ما تفعله إسرائيل؟ إنها وليد نمطي للمدرسة الإمبريالية الأوروبية بتفاصيلها.
(3)
ومع هذا فلا بد من الاعتراف بأن الجانب العربي والجانب الفلسطيني قد قدما تنازلات إعلامية وسياسية ودبلوماسية كبيرة للغرب: أولا الإنسياق وراء التعبيرات الأوروبية والأميركية والمساواة بين الضحية والجلاد في الاتفاقيات والبيانات.
ففي إعلان العقبة وإعلان شرم الشيخ مثلا، يجري الحديث عن التهدئة من الجانبين وعن التنسيق الأمني وعن الوضع التاريخي الذي ليس له تحديدا، وغير ذلك من العبارات الفضفاضة التي يمكن تفسيرها في كل تجاه. -ثانيا وافق الجانب العربي والفلسطيني على عبارة “توقف اسرائيل عن مناقشة discussion موضوع المستوطنات الجديدة لمدة 4 أشهر”. ما هو المدلول العملي و السياسي و القانوني للتوقف عن المناقشة؟؟؟ لا أحد يدري. وكأن المشكلة هي في المناقشة وليس البناء ومصادرة الأراضي والاعتداء على ممتلكات الشعب الفلسطيني. ثالثا في كل مرة يكون اللقاء مع الجانب الإسرئيلي يكون الجانب الأميركي في الصدارة ابتداء من مفاوضات السلام عام 1991 مروراً بشراء الأردن للماء والغاز من إسرائيل وانتهاء بشرم الشيخ. هذا في حين يعلن الجانب الأميركي ليل نهار ” أن أمن إسرائيل، حسب مفاهيمها وسياساتها وبرامجها، جزء من أمن الولايات المتحدة الأميركية، وأن تفوقها العسكري على الجيوش العربية مجتمعة التزام أميركي”. نموذج لا نجد نظيراً له في العالم. ويكفي ان يعلن بايدن في 26/10/2022 خلال استقباله يتسحاق هرتسوغ رئيس إسرائيل: “أكدت مراراً سيدي الرئيس انه “لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان علينا اختراعها.”.
وهذا يعني أن الأميركان على استعداد لإعادة إنتاج تمثيلية الوطن القومي لليهود وعلى حساب الشعب الفلسطيني. اما بريطانيا فلم تتردد رئيسة وزرائها تيرزا ماي عام 2017 من الاحتفال بمناسسبة مرور مائة عام على صدور وعد بلفور الذي سلب الفلسطينيين وطنهم ليحل محلهم غرباء من شتى بقاع الأرض. ان المستعمر التقليدي الذي قتل الملايين في الهند وافريقيا وأميركا اللاتينية ما يزال موجوداً لدى الدولة العميقة ولدى القادة السياسيين في أوروبا وأميركا.. فهل يمكن أن يكون هذا وسيطا عادلاً بين إسرائيل والفلسطينيين؟ وهل يمكن أن يكون حريصاً على العدل والسلام والحقوق الإنسانية.؟ وهل يمكن أن يضمن وقف التوسع الإسرائيلي نحو أي تجاه؟ إن وساطة الولايات المتحدة لا تضع العدل والقانون الدولي والإنساني والاتفاقيات كضوابط ومرجعيات، وإنما تضع وساطتها كمحرك لاستمرار العملية التفاوضية لصالح إسرائيل لا غير.
(4)
وبعد، فإن المرحلة أخطر بكثير فلسطينيا وأردنيا وعربيا مما تنطلق به التصريحات الدبلوماسية هنا وهناك. فالولايات المتحدة تخفف انخراطها في المنطقة حتى تركز على “الرباعي الجديد المنافس”: الصين وروسيا والهند و البرازيل، وتترك الساحة لإسرائيل وتركيا وايران، بعد خلخلة العراق، وتدمير سورية وتحييد مصر. وهذه فرصة لإسرائيل في ظل الإنجراف اليميني الديني لأن تتعجل في الابتلاع والتهويد بكل عنصرية في فلسطين، وتثبيت بعض إشارات التوسع في سورية ولبنان والأردن، ومد أذرعها إلى مزيد من الأقطار العربية.
لقد آن الأوان أن تخرج الفصائل الفلسطينية من انقساماتها التي قد تصنعها وتغذيها إسرائيل بشتى الوسائل، وان تخرج السلطة الفلسطينية اولا والعرب ثانيا من العربة الأميركية الأوروبية التي لا توصل إلى أي مستقبل يتعارض مع الأطماع المفتوحة لإسرائيل. فأوروبا وأميركا تتعاملان مع العالم العربي من المنظور الذي عبر عنه أحد القادة الصهاينة بقوله ” السياسي العربي يبحث عن المال والمنصب وهامش للكلام.. وبعد ذلك افعل ما تريد”. إن الشعب الفلسطيني في مدنه وقراه فقد الثقة بالسلطة والفصائل معا، وبالتالي فإن استمرار الانقسام والتنسيق الأمني وتغييب التجديد الديمقراطي في المنهج والوجوه يمثل دعما غير معلن للمشروع الصهيوني.
إن المستقبل هو للعمل الشعبي على ارض فلسطين لإحباط الخطط الصهيونية، وللعمل العربي الشعبي من خلال الأحزاب
ومنظمات المجتمع المدني لدعم صمود الفلسطينيين ووقف أي تمدد إسرائيلي بالخفاء. انها حرب تاريخية ستمتد إلى سنوات طويلة.