الأمن الغذائي وإشكالية التعاون العربي

(1)
سنة بعد سنة، يتفاقم موضوع الغذاء، سواء من حيث الوفرة أو الاستمرارية أو التحملية (القدرة على تحمل الأسعار) أو النوعية، ليصبح مشكلة عالمية معقدة. كل ذلك نتيجة للتغيرات المناخية من جانب، وانكماش المساحات المزروعة بسبب الزحف العمراني والجفاف من جانب ثان، وارتفاع أسعار الغذاء من جانب ثالث، والصراعات الدولية الساخنة والباردة كالحروب والعقوبات الاقتصادية التي تدمر سلاسل التوريد من جانب رابع.
إن المنطقة العربية، بخاصة الدول غير النفطية، مرشحة لأن تعاني من نقص حاد في المواد الغذائية وارتفاع أسعارها خلال السنوات المقبلة، بسبب اعتمادها على استيراد المواد الغذائية الأساسية بالدرجة الأولى (100 مليار دولار سنويا)، ولأن الاراضي المزروعة لا تتجاوز 36 % من مجمل الاراضي الزراعية في مختلف البلدان العربية، بالاضافة الى ما تعانيه بعض الأقطار مثل سورية والعراق واليمن وليبيا والسودان وتونس من عدم استقرار وحروب، أو نزاعات أهلية أبعدت ملايين المزارعين عن أراضيهم.
وفوق كل ذلك، فإن جميع الأقطار العربية فقيرة بموارد المياه الدائمة، بخاصة بعد أن تمكنت الدول الاقليمية من السيطرة على اجزاء كبيرة من مياه الانهار، كما هي تركيا بالنسبة لنهري دجلة والفرات، وايران بالنسبة لنهر دجلة، والحبشة بالنسبة لنهر النيل والكيان الاسرائيلي بالنسبة لنهر الأردن وبحيرة طبريا، ولم تعالج مسألة شح المياه بشكل منهجي طويل الأمد.
(2)
وقبل أيام قليلة، انعقد في دمشق الاجتماع الثاني لوزراء الزراعة في كل من الأردن وسورية ولبنان والعراق، لبحث موضوع التعاون بينها في مجال الغذاء على طريق تحقيق الأمن الغذائي، بخاصة و”أن الخطر يتهدد الجميع”، كما قال المهندس خالد حنيفات وزير الزراعة.
وحين نتحدث عن الأمن الغذائي بين الاردن وسورية والعراق ولبنان، فإن الأمر يتعلق بأربعة بلدان متجاورة ولا نزاعات بينها، ولكنها تتباين في موضوع الأمن الغذائي تباينا كبيرا. ففي حين تحتل الأردن المرتبة 47 على مستوى العالم في دليل الأمن الغذائي من أصل 136 دولة، تحتل سورية المرتبة المتأخرة 132. كما أن الأمن الغذائي في كل من العراق ولبنان غير مستقر، ويتذبذب بقوة صعوداً وهبوطاً بين الفينة والاخرى.
وكان من أهم ما ورد في البيان المشترك، أنه لا بد من وضع “حلول مشتركة للتحديات المرتبطة بالأمن الغذائي عبر تكامل زراعي، وإقامة مشاريع مشتركة، وتشجيع الزراعات غير التقليدية، وتسهيل انسياب السلع بين الدول الأربعة والتسويق الزراعي المشترك، ومواجهة التغيرات المناخية والعواصف الرملية. هذا إضافة إلى دعم مبادرة منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، بأن يستضيف الأردن المرصد الإقليمي للأمن الغذائي، وأن يكون مركزا اقليميا للمساعدات الغذائية الطارئة. ولتحقيق هذه التطلعات الكبيرة، فإن الأمر يتطلب تفكيراً معمقاً وحلولاً جديدة قابلة للتنفيذ والخروج من الإشكالية التقليدية للتعاون العربي.
(3)
ولكن هل ما سمعه المواطن في بيان دمشق حول الشراكة لمواجهة أزمة الأمن الغذائي يختلف في جوهره عن بيانات مشابهة بين مصر والأردن والعراق وكذلك بين الاردن ودول عربية اخرى؟ أليس هذا التعاون المنشود، جزءا من التعاون العربي التقليدي؟ إن مثل هذه الأسئلة بحاجة لإجابات واضحة إذا أردنا أن نأخذ ما ذهب إليه بيان دمشق مأخذا جاداً، وان نفكر في قضية الغذاء بالشكل الذي تستحقه. وبطبيعة الحال فإن الاجابات الدبلوماسية، كما فعل عمرو موسى حين قال “ان التعاون االعربي لم يفشل ولكنه لم ينجح”، لا تفيد في هذا المقام. ذلك أن بيانات العمل المشترك، استقرت في ذهن المواطن العربي لتكون تعبيرا عن لقاءات دبلوماسية، وأمان جميلة يجري تكرارها بعد كل لقاء، وبعد اجتماع كل لجنة مشتركة، عاما بعد عام دون تحقيق انجاز ملموس على ارض الواقع.
والسؤال الكبير لدى المواطن العربي: لماذا لم ينجح التعاون العربي؟ لماذا أخفقت الدول العربية في انشاء تكتلات سياسية أو اقتصادية متماسكة سواء بالنسبة لجميع الدول العربية الـ22، أو بالنسبة لمجموعات إقليمية كالمغرب العربي أو الشرق الأدنى أو دول الجزيرة العربية أو مصر والسودان؟
ولماذا فشلت الدول العربية في إنشاء مشاريع إقليمية مشتركة، كسكة الحديد وخطوط الطيران والصناعات الكبرى ومشاريع المياه، ومراكز البحث العلمي والتطوير التكنولوجي؟ بل وحتى الرحلات السياحية المشتركة؟
الإشكال هنا، أن الادارات العربية تنظر للتعاون العربي من منظور تقارب أنظمة الحكم أو تباعدها، وليس من منظور تقارب الدول بمؤسساتها ومشاريعها وخبرائها واقتصادييها. ولذا فإن المعيار العربي الرسمي، يقوم على التوافق مع النظام او الاختلاف معه. وهذا التوافق او الاختلاف بين الانظمة لا تحكمه في كثير من الأحيان المصالح الوطنية، بقدر ما تحكمه الضغوطات والاصطفافات والتكتلات والمساعدات. كذلك فإن بيانات التعاون أو المشاركة العربية كثيرا ما لا يسبقها اجتماعات للخبراء، ليدخلوا في تفاصيل التعاون ومتطلباته المالية والإدارية واللوجستية والتكنولوجية، حتى يكون الالتزام قابلاً للتطبيق، وإنما يكتفى بالعموميات والعبارات الفضفاضة مثل التعاون والمشاركة والمصلحة المشتركة، وتطوير الإمكانات وتحسين العلاقات.
ومن الجانب الإداري غالبا ما لا يجري تحديد الاجراءات العمودية والافقية في كل بلد، حتى يجري اتخاذها لجعل فقرات التعاون قابلة للتطبيق. وحقيقة الأمر أن الاقطار العربية هي من مجموعات الدول القليلة في العالم التي تتحرك إداراتها العليا، بعيداً عن اتجاهات شعوبها وتطلعاتها.
يعود ذلك، الى أسباب رئيسة أربعة، الأول: غياب الديمقراطية في جميع الدول، بحيث لم يتجاوز معدل دليل الديمقراطية في العالم العربي 50 %، بينما ينخفض الدليل في عدد منها الى اقل من 30 %. وبالتالي ليس هناك شراكة في رسم السياسات وصنع القرار. والثاني: جاهزية الإدارات بسبب عدم الارتكاز على قوة الدعم الشعبي، للاستجابة الى الضغوط الخارجية، بخاصة الاميركية والأوروبية، والتي لا تريد للدول العربية أن تبني تكتلات اقتصادية وسياسية قوية، لأنها ترى في ذلك تهديدا لمصالحها ونفوذها، ومصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي. والثالث: الإفراط في الاعتماد على المساعدات والمنح والقروض، بكل ما يرافق ذلك من التزامات وشروط مباشرة وغير مباشرة، فورية أو آجلة. والرابع: اسبتعاد المفكرين والخبراء المتخصصين للدخول بالتفاصيل الفنية والتكنولوجية والاقتصادية، وإدارة ما يتفق عليه، والاكتفاء غالبا بالمنظور السياسي والإعلامي.
(4)
ولأن الأردن يتمتع بدليل أمن غذائي جيد 66 %، فإنه يستطيع إذا صدقت النوايا وتوافرت الإرادة والإدارة والتمويل، واستندت على العلم والخبرة والإبداع، أن يكون مركزاً للدول الأربعة في مجال الأمن الغذائي، بخاصة وان البلدان الثلاث سورية والعراق ولبنان، تعاني من عدم استقرار القطاع الزراعي، نتيجة للإزاحات السكانية المتكررة خلال السنوات الماضية، وقد تكون المفردات التالية مدخلاً مناسباً لهذا الأمر. أولاً: أن تعمل الدول الأربع على توسيع رقعتها الزراعية وفق برنامج زمني واستثماري محدد، وتكنولوجيا متقدمة. ثانياً: الاتفاق على برامج زمنية محددة ومستقرة لاستيراد وتصدير المنتجات الزراعية النباتية والحيوانية بين البلدان الأربعة، لتكون معروفة للمزارعين والموردين. ثالثاً: الاتفاق على برنامج للتصنيع الزراعي، يتضمن إنشاء مشاريع مشتركة لتصنيع مدخلات الإنتاج وفائض الإنتاج، والإفادة من الصناعات القائمة في هذا المجال، يشمل الأسمدة والأدوية والمبيدات والمعدات والأجهزة وغيرها. رابعاً: وضع برامج مشتركة لمواجهة أزمة المياه، وبالتالي تطبيق جميع التكنولوجيات التي يمكن أن تساعد بتخفيف الأزمة على نحو تراكمي، ابتداء من تدوير المياه المستعملة مرورا بالاستمطار وأساليب الري الممكنة، وصيد الضباب، والصناديق المائية، وتكثيف رطوبة الهواء وانتهاء بتحلية المياه بالاستطاعات الصغيرة والمتوسطة. خامساً: انشاء مركز متخصص تموله الدول الاربع، يتخصص في تكنولوجيات المياه، ليجرى العمل في المركز على تحسين وتطوير مختلف التكنولوجيات ذات العلاقة بالمياه اللازمة للزراعة النباتية والحيوانية. سادساً: إنشاء مركز متخصص بتطوير السلالات الزراعية الأكثر احتمالاً للحرارة والجفاف، ليعمل على توفير السلالات الملائمة على مستوى تجاري واسع. سابعاً: إنشاء مركز متخصص لمكننة الزراعة يستفيد منه المزارع في البلدان الأربعة، لرفع مستوى المكننة من وضعها الحالي المتواضع الى مستويات متقدمة. ثامنا: تبقى المشكلة المعقدة لدى الدول الأربع، وبخاصة من بينها العراق والأردن، هي المشاريع المشتركة. ولا حل لها إلا الارتقاء التكنولوجي المبرمج والسريع بالزراعة والتحول نحو الزراعة المائية كلما أمكن ذلك. تاسعا: تخصيص موازنة تبدأ بـ100 مليون دولار تساهم فيها الدول الأربعة لتنفيذ البرامج التي سيضعها العلماء والخبراء. عاشرا: الاعتماد الذاتي في التمويل وعدم الاعتماد على المساعدات الدولية لتنفيذ المشاريع.
وبذا يمكن تغيير مستقبل الغذاء في الدول الأربع.