تداولت وسائط الإعلام نتائج أبحاث منظمة الشفافية الدولية حول الفساد في (177) دولة في العالم. وقد تركز البحث على الفساد في مؤسسات الدولة أو في القطاع العام وليس القطاع الخاص، والذي بطبيعة الأمر ينبغي أن يؤخذ في الحسبان عند دراسة الحالة الكلية للفساد.
و الملفت للنظر، أن ستة من أدنى الدول في الترتيب الدولي، أو من أكثر الدول فساداً هي دول عربية شملت: “السودان والصومال والعراق واليمن وليبيا وسوريا”. وفي نفس الوقت، فإن جميع الدول العربية حصلت على درجات متدنية تقل عن (50)من أصل (100)، باستثناء الإمارات المتحدة التي حصلت على (69)، و قطر(68). في حين أن مصر حصلت على (32) وهي نفس درجات كينيا ونيجيريا، رغم التراث الحضاري التاريخي الكبير الذي تحمله مصر. وتقدمت الهند فحصلت على (36) وهو انجاز كبير للهند. أما الصين فقد حصلت على (39)، في حين كانت درجة السعودية (46). وكما هو متوقع فإن الدنمارك وفنلندا ونيوزلندا كانت الأقل فساداًَ في العالم. وحصلت كل منها على (91) و(90) درجة. تلتها السويد وسنغافورة وسويسرا . أما نحن في الأردن فقد تراجعنا إلى الترتيب (66) بين الدول أل (177) وحصلنا على (45) علامة.
والسؤال الكبير هو : ما الذي يجعل الفساد في القطاع العام عاماً في الأقطار العربية بدون استثناء؟ ولماذا لا توجد دولة عربية واحدة تصل إلى مستوى بريطانيا أو اليابان والتي تقع في الترتيب (17) بين دول العالم؟ أو حتى ماليزيا و تركيا التي تقع كلاهما في الترتيب ( 53 )؟ ناهيك عن أن تصل دولة عربية إلى مستوى سنغافورة أو نيوزلندا أو الدنمارك؟ لماذا تتشابه الأقطار العربية في الفساد و تتقارب جدا رغم الادعاءات بعكس ذلك؟ ولماذا تقع الدول المسلمة كذلك عموما في ادني درجات السلم: الصومال، أفغانستان، أوزبكستان، العراق والسودان؟ وقد حصلت كل منها على اقل من (30) درجة على الرغم من أن الدين والأخلاق والقيم تدعو إلى الصلاح والنزاهة؟
يشير العلماء و الباحثون أن هناك عوامل ومحركات عديدة للفساد تأتي في مقدمتها أسباب عشرة الأول: سوء توزيع الموارد والمخصصات في المجتمع على أمل الحصول على منافع خاصة بما فيها المال، وهذا يدفع بالمتضررين للبحث عن مداخل لتعديل القرار من خلال أوجه الفساد المختلفة وفي مقدمتها الرشوة. الثاني: غياب القانون . فحين تفشل الدولة، أو تعجز، أو تتجاهل تطبيق القانون على جميع مواطنيها بالتساوي، يأخذ الناس باللجوء إلى الفساد لتجاوز هذه المسألة. ومن شأن كل عملية فساد أن تولد معها عشرات العمليات الجديدة. ويعمل غياب القانون على مفاقمة حالة الفساد بسرعة كبيرة سواء كان فسادا ماليا أو إداريا أو مهنيا أو أخلاقيا. الثالث: الواسطة والمحسوبية. وهنا حين يغيب العدل، ويغيب مبدأ تكافؤ الفرص، يلجأ المواطن إلى شراء الواسطة ودفع ثمنها مقابل ما يتمتع به آخرون من القدرة على الوصول إلى ما يريدون الرابع: القرباوية والمتمثلة في تنفيع وتقديم وتفضيل الأقارب والمقربين من العائلة والأصدقاء والعشيرة والبلدة والحزب والجماعة والطائفة والديانة. الخامس: غياب الديموقراطية، والتركيز على بناء قوة للنظام الحاكم وليس للدولة. وهنا يعمل النظام على إفساد الناس من خلال الترغيب والترهيب والرشوة بالمواقع والوظائف. و النموذج الصارخ نجده في كوريا الشمالية ( درجتها أقل من 20)، والدول العربية التي تحكمها عصبيات طائفية أو فئوية أو جهوية.
السادس: غياب المواطنة والمساواة كقاعدة لتعامل الدولة مع المواطنين. وإذاك يصبح الفساد هو المدخل المتاح للوقوف على قدم المساواة مع الآخر واستكمال حقوق المواطنة. السابع: البيروقراطية ومستوى الأجور. حين تغيب اللامركزية و تصبح إدارة الدولة تتسم بالبيروقراطية وتكون أجور العالمين في الدولة أدنى مما تتيح لهم العيش الكريم يعمد هؤلاء إلى تعطيل كل قرار، إلا إذا قبضوا مقابله رشوة، مثل الفروق الضخمة في الدخل. ففي مصر مثلا تصل النسبة بين أعلى الرواتب( المباشرة وغير المباشرة) و أدناها 1:500. و بالتالي يحاول الأفراد والجماعات أن يعوضوا فروق الأجور من خلال المكاسب والرشوة و أية منافع أخرى.الثامن: التهرب الضريبي وغسل الأموال، حيث يعمل غاسلو الأموال و متهربو الضرائب إلى إسكات الموظفين والمسئولين الكبار بكميات كبيرة من الأموال تجعلهم يتغاضون على أشياء كثيرة. والتاسعة: هي التربية والثقافة العامة والإعلام. حيث تعمل هذه على تبرير الفساد، وتصويره على انه نوع من المهارة والشطارة، وحسن الحظ،، أو ضرورة لا بد منها، ولا يشكل جريمة أخلاقية أو عيبا سلوكيا ،أو ضرراً إنسانيا واقتصاديا. والعاشرة: هي القدوة من كبار المسئولين، حيث يعمل الفساد لدى هؤلاء على سرعة انتشار الفساد في المستويات المختلفة من الإدارات الحكومية. و يمنعهم من المحاسبة للعاملين معهم، فالكل شركاء حينئذ.
ونحن إذا تأملنا هذه الأسباب، نجدها للأسف مشتركة في معظم الأقطار العربية، ومتشابهة إلى حد كبير. فسوء توزيع الموارد يبدأ بإهمال المحافظات والأطراف، و ينتهي باختلاق مشاريع ليست ضرورية و لكنها تحقق أكبر قدر ممكن من العمولات . الأمر الذي يجعل سلوكيات الإدارات وشرائح المجتمع في مختلف الأقطار العربية تصب في نفس الاتجاه.
إن الكلفة الاقتصادية للفساد باهظة للغاية،و تعتمد على درجته و انتشاره. و يقدرها بعض الخبراء بالنسبة للدول النامية، بما في ذلك كلفة الفرص الضائعة، كرقم متوسط بحوالي (30%) من الناتج المحلي الإجمالي، في حين تضعها التقارير المتحفظة عند (10%) .و بالنسبة لنا في الأردن فتقدر الكلفة للفساد بما يعادل مئات الملايين من الدنانير سنويا. أما التهرب الضريبي فيقدر الخبراء كلفته وحده بـ (50%) من قيمة الضرائب ، أو ما يقرب لدينا من (550) مليون دينار سنوياً.أما الكلفة الاجتماعية فهي لا تقدر بثمن. إذ أنها تعادل سنوات من الإحباط و الفقر والبطالة و التخلف ،غالبا ما تكون نهايتها الثورة والفوضى إذا لم يتدارك الإصلاح الأمر. وهكذا فإن الفساد في المنطقة العربية سمة عامة، و قضية بالغة الخطورة اقتصاديا واجتماعيا ووطنيا و انسانيا .
الآن وبعد نشر التقرير بما يحتوي من أرقام تعطي مؤشراً مقنعاً عن حقيقة الأوضاع، وبالتالي لا ينبغي إضاعة الوقت في تفنيد أو تبرير هذا الرقم أو ذاك، فذلك ليس له قيمة.
السؤال: من تثيره هذه الأرقام في مؤسسات الدولة؟ و من يأخذها مأخذ الجد؟ وهل يستتبع هذه القراءة أولا الإسراع في برامج الإصلاح و ثانيا الجدية في تنمية المحافظات و ثالثا وضع “برنامج وطني للقضاء على الفساد” بالتعاون ما بين المؤسسات المختلفة؟ هل نتطلع إلى رفع مستوى الأردن والوصول إلى العلامة (65) مع عام 2020؟ حتى نحافظ على انجازاتنا؟ ونبني مستقبل وطننا ليكون أفضل و أقل فساداً؟.هل يمكن أن تطلب الحكومة من كل مؤسسة و دائرة و وزارة وضع”المدونة المهنية التخصصية للقضاء على الفساد” لكي تصبح ملزمة لجميع العاملين في تلك المؤسسة أو المهنة؟ فمنع الفساد، و تجفيف منابعه، و التعرف على أوجه التخصصية ، و الاستثمار في كل ذلك، أهم من الانشغال الكلي البطيء في محاسبة الفاسدين على ضرورة ذلك. وهذا من صميم المسؤولية المباشرة لكل من هيئة مكافحة الفساد، والهيئة الوطنية للنزاهة، والإعلام والثقافة، ومنظمات المجتمع المدني. وهذا ما يرجوه كل مواطن.