الجريمة والعقاب.. الأخطار.. والإجراءات

تتزايد أعمال الجريمة من يوم إلى يوم، بشكل لم يعرفه الأردن قبل سنوات. وأصبحت الجريمة تطال شتى مناحي الحياة في مختلف الأماكن، ابتداء من قلب العاصمة، وحتى العقبة جنوباً والرمثا شمالاً. و لم يعد المواطن في كثير من الأحيان آمناً على أمواله في بيته أو أمام صندوق الصرف الآلي، أو على سيارته وهي تقف أمام منزله، أو سيدة تحمل حقيبتها لينقض عليها من يخطفها، أو بيوت آمنة يجري اقتحامها، وسرقة ما فيها من أشياء ثمينة. هذا إضافة إلى جرائم التهريب والسطو، والمخدرات التي تنامي انتشارها، وخاصة بين الشباب وفي الأماكن الفقيرة والمهمشة إلى درجة تدعو للقلق.
وحسب التقارير الدولية  التي علينا أن نقرأها بمسؤولية، فقد ارتفع مؤشر الجريمة في الأردن من (19.1) عام 2012 إلى الرقم (43.4) عام 2013، مقابل (35) في تركيا و(34.3) في المغرب (29.3) الكويت. والعبرة في هذا أن كل جريمة يتبعها أو يتولد عنها حزمة من الجرائم تجعل معدلات نمو الجريمة تتصاعد مسرعة.
أن يكون في الأردن أكثر من مليون لاجئ ووافد وزائر دائم من بلدان مختلفة، وبعادات وأساليب معيشة مختلفة، أمر يفرض بطبيعته نمواً متصاعداً للجريمة. فلا أحد يعرف عن “بعض القادمين” ماذا كان يعملون، وما هي وسيلة معيشتهم في بلدهم سابقاً، وماذا سيعملون في بلدنا المضيف المضياف. وهذا من شأنه أن يضع عبئا كبيرا على رجال الأمن، و مسئولية على رجال القانون والقضاء وعلى السلطة التشريعية. فانتشار الجريمة وتزايدها بشكل مضطرد وبنسبة مرتفعة تتعدى 8% سنوياً، وهي نسبة أكثر من ضعفي معدل النمو السكاني، ونزول الأردن إلى المرتبة (58) على المؤشر العالمي للجريمة لعام 2013 بعد أن كان في المرتبة (83) أمر ينذر بالخطر. قد تكون الزيادة في معدل الجريمة الآن طارئة، ولكن استمرارها لعدة سنوات وعلى هذا النحو دون علاج ،سوف يحولها إلى علة مستديمة، ويوقع المجتمع بأسره في مأزق اجتماعي غير مسبوق .
ومع كل التقدير لجهود المؤسسات الأمنية كافة في الحفاظ على الأمن والنظام وسلامة المواطنين، إلا أن تأثير هذه الجهود، آخذ بالتراجع بسبب “تراجع هيبة الدولة”.و هذا بدوره ناشئ أساسا عن عدم تطبيق القانون بحزم وعدل ودون استثناء. و بسبب “الجرأة الشديدة” لدى المجرمين على تحدي النظام والقانون، وتحدي الأمن ورجاله. وكثيراً ما يردد المواطنون عبارة مثل: عندما اشتكينا إلى المركز الأمني عن سرقة اخبرونا أنهم يتسلمون يومياً عشرات من الشكاوى المماثلة، وبعضهم يكون صريحاً بالقول: لا نستطيع أن نعمل شيئاً.
لقد راحت الجريمة المنظمة تأخذ مكانها بسرعة وعمق في مجتمعنا. ويقال، أن هناك أماكن وأوكار للجريمة لا يستطيع أحد دخولها. وبالتالي فليس من الحكمة أو الوطنية أن ندفن رؤوسنا بالرمال ونقول: لا، لم تصبح الجريمة المنظمة ظاهرة، إنها مجرد حوادث متفرقة .إن الجريمة المنظمة لا تستدعي وجود عصابات بحجم “المافيا” أو “آل كابوني”. بل إن مجرد وجود جماعات تمتهن الجريمة، وتتقاسم الأدوار والمناطق فيما بينها، يعني تنظيما للجريمة و مأسسة لها.وعندما يتحدث المواطن عن سرقة سيارته، يقال له بأن هناك عصابات قد احترفت السرقة وأتقنتها. وهي إما أن تفكك السيارة وتبيعها قطعا لمحلات متخصصة بهذا النوع من الشراء، و معروفة للكثيرين، و إما أن تتصل بصاحب السيارة لتطلب مبلغا من المال مقابل إعادتها.
ومن جهة أخرى فإن نطاق المخدرات الخفيفة مثل المهدئات و حبوب الهلوسة،والمخدرات الثقيلة مثل الحشيش هو في اتساع بين الشباب، ويجري الترويج لها بشتى الوسائل. وهي ظاهرة أن تمكنت في المجتمع، فإنها يصعب اقتلاعها، أو إيقافها أوالتعامل معها. وهي في تبعاتها الاقتصادية والاجتماعية قادرة على تفجير المجتمع من الداخل..
والسؤال: هذه هي الجريمة.. فأين العقاب؟ وما هو حجم العقاب ؟ وهل هناك توازن حقيقي بين الجريمة والعقاب؟ وهل هناك استعداد لإنزال العقاب بمن يستحق؟
في الأحوال العادية يمكن أن تؤخذ الأمور بصورة عادية، ولكن التسارع في نمو الجريمة،  وفي حجمها واستجلابها ، يتطلب استثناء عاجلا في نوعية العقاب وشدته ورادعيته، أي قدرته على الردع. ان الظروف الاستثنائية التي يمر بها الأردن من حيث توافد الآلاف عليه من كل حدب وصوب، وارتفاع حالة الفقر والبطالة، والإحباط الذي يعانيه الشباب، وفشل أنظمة التعليم الأساسي والعالي في بناء الشخصية القوية الوطنية السوية للنشء الجديد، والعنف المجتمعي والجامعي، وغياب خدمة العلم، كل ذلك يتطلب التصدي لهذه الأسباب،وقبل ذلك أحكاماً استثنائية عاجلة، لتغليظ عقوبة الجرائم جميعها. ذلك أنه حين يكون معدل نمو الجريمة متناسباً مع النمو السكاني، فإن القانون قد يبقى على حاله، والعقاب في ذات المستوى، ولكن حين تتفاقم حالات الإجرام و اختراق القانون، ويظهر مجرمون للعمل على تجذير كوارث اجتماعية مثل العصابات والتهريب والمخدرات فلا يتوقع أحد أن يبقى العقاب على حاله.
إن العديدين من رجال الأمن، ومن لديهم خبرات معمقة، و غيرة وطنية صادقة، يؤكدون أن الحل يكمن في أربعة مداخل إجبارية. الأول: تغليظ العقوبات والذي أصبح ضرورة قصوى والثاني: تطبيق القانون لاستعادة هيبة الدولة. والثالث سرعة تنفيذ الإجراءات القضائية والأحكام.والرابع التوافق المجتمعي على التصدي للجريمة.
حين يتراجع مؤشر الأمن في الأردن من (80.8) إلى (56.5) خلال عام واحد فإن الحكومة مسئولة عن هذا التراجع، ورجال القانون والقضاء والإعلام والقوى السياسية والمثقفون أيضاً مسئولون. ما الذي يمنع الحكومة من التقدم إلى البرلمان بمشاريع قوانين استثنائية لتغليظ العقوبات وجعلها رادعة قاطعة؟ حتى لو لفترة محدودة تمتد لعشر سنوات مثلاً ؟ ما الذي يمنع الحكومة من الطلب إلى الوجهاء والشخصيات المحلية من المساعدة في الحد من هذه الظاهرة وعدم تقديم التعاطف أو الشفقة أو التغطية أو السكوت أو حتى التوسط لتخفيف العقوبات؟
إن ما يعانيه المواطن في شتى إنحاء المملكة من اتساع نطاق الجريمة، يقتضي التحرك الجاد من جميع الأطراف، والدعوة إلى عقد مؤتمر وطني يشارك فيه الخبراء من الأمن والجيش والوجهاء وشيوخ العشائر والمفكرون والمثقفون والإعلاميون والقانونيون، ويتم التوافق فيه على “وثيقة وطنية للتصدي الجريمة”، يتعهد الجميع فيها بالتعاون الكامل على تطبيق القانون مهما كانت الظروف. إن الأمن الاجتماعي هو الذي يعيد للمجتمع تماسكه وقوته، وان النهوض الاقتصادي الذي نحن بأمس الحاجة إليه يقوم على العمل والمشاريع و الاستثمار الذي بدوره يتطلب الأمن والأمان. و من الصعب أن يزدهر المستقبل في تربة تتكاثر فيها جراثيم الجريمة.