في الوقت الذي يشن فيه جيش الاحتلال الإسرائيلي حرباً عسكرية مكشوفة ضد الشعب الفلسطيني في قراه ومدنه، ومقدساته ومدارسه ومنازله ومزارعه، فإن الحكومة الاسرائيلية تقود حرباً أخرى متواصلة وهي حرب التهويد للتاريخ والجغرافيا والثقافة الفلسطينية، مستغلة الانقسام الفلسطيني والتشتت العربي، وانشغال العالم في الحرب الروسية الأوكرانية، واستماتة سياسيي بريطانيا وأميركا على استرضاء اللوبي الصهيوني، لغاياتهم الانتخابية، بالتعامي عن الجرائم الدموية المتوحشة الإسرائيلية.
ففي عام 1994 قام باروخ جولدشتاين اليهودي اليميني المتطرف الأسترالي الأصل بالجريمة البشعة في الحرم الابراهيمي في الخليل، بالتواطؤ مع الجيش الإسرائيلي وعدد من المستوطنين، حيث أطلق النار على المصلين في داخل الحرم فاستشهد 29 شخصاً وجرح 150 شخصاً آخرين واستمر في اطلاق النار حتى تمكن المصلون منه وأردوه قتيلاً. وشكلت آنذاك حكومة الاحتلال لجنة تحقيق (لجنة شمفار) فخرجت كما هو متوقع بنتائج هزيلة، تماماً كما فعلت لجنة التحقيق في مقتل الشهيدة الصحفية شيرين أبو عاقلة. وصفت اللجنة جولدشتاين بالجنون وعدم المسؤولية. الاهم من ذلك ان الحكومة الاسرائيلية أغلقت الخليل لمدة 6 اشهر، وخلالها جرى تقسيم الحرم الابراهيمي بين الفلسطينيين والاسرائيليين، حيث تدعى اسرائيل ان المسجد كان معبداً يهودياً. واليوم تسيطر اسرائيل على 75 % من الحرم الابراهيمي ولا يسمح للمسلمين بدخول الحرم إلا في اوقات محددة، ويحظر عليهم الدخول أو رفع الآذان أثناء الأعياد اليهودية. وقد تناسى الجميع الحرم الإبراهيمي لينشغلوا بسلسلة من المستجدات المتوالية.
هل ما حدث في الخليل كان صدفة انتهت احداثها بمصرع جولد شتاين وفي تقسيم الحرم الابراهيمي زمانيا ومكانيا لصالح اليهود حتى اصبح التقسيم مسألة عادية؟ ام انه واحدة من سلسلة لا تزال حلقاتها تتدحرج حتى اليوم؟ يذهب التفكير مباشرة الى القدس والمسجد الأقصى.
(2)
منذ احتلال الضفة الغربية بما فيها القدس عام 1967، واسرائيل تقوم وبشكل ممنهج باشراف الحكومة والجيش وتواطؤ القضاء الاسرائيلي بسلسلة من الاجراءات الهادفة الى مصادرة بيوت وأراضي الفلسطينيين والسيطرة الكاملة على المسجد الأقصى، ليس فقط لتتقاسمه زمانيا ومكانيا، وانما لهدمه وبناء نموذج الهيكل المزعوم في مكانه. وانطلقت الرحلات السياحية لليهود للقدوم الى الأقصى تحت عنوان “زيارة جبل الهيكل” اشارة الى عدم الاعتراف بالأقصى والإصرار على انه الهيكل. ولذا راحت تعمق الحفريات تحت المسجد وحوله وفي أسفله، وتقيم الانفاق والممرات بهدف زعزعة القاعدة الأرضية التي يقوم عليها المسجد القصى بكامله، وليغدو عرضة للانهيار تحت اي هزة طبيعية أو مفتعلة. وأصبح دخول الإسرائيليين إلى المسجد والقيام بطقوس دينية بل حفلات ترفيه أمر يتكرر كل يوم، وبحراسة مشددة من شرطة وجيش الاحتلال. وفي الاشهر الماضية الأخيرة اصبح منع المصلين المسلمين من الدخول وفرض قيود السن والمسكن على من يدخل المسجد هو النمط السائد. كل ذلك لا يلاقي عربيا إلا بعض الاستنكار من آن لآخر، و العديد من الإعلامات الرسمية العربية لا تتناول الموضوع أبدا. و تشير بعض التحليلات الى ان اسرائيل تخطط ليكون عام 2025 موعد إعلان التقسيم الزماني والمكاني للأقصى، وعلى غرار الحرم الابراهيمي.
(3)
وقبل بضعة أيام، يوم الجمعة في الساعة السابعة صباحاً، إقتحمت قوات الاحتلال البلدة القديمة في بلدة كفر اللبد شرق طولكرم، وقامت بتصوير المسجد القديم والبيوت القديمة المحيطة به، وكذلك قلعة كفراللبد التاريخية التي اعيد ترميمها قبل سنوات ومعصرة زيتون قديمة، وتم اشعار اهالي كفر اللبد ان تلك المنطقة تاريخية واثرية لليهود، وكانت كنيساً يهودياً تم تحويله الى مسجد بعد ان حرر صلاح الدين الايوبي القدس. وهذا نموذج ثالث ، من عشرات النماذج،غاية في الخطورة وهو الادعاءات الدينية للسيطرة على المواقع التاريخية الهامة في فلسطين.و بعدها في أقطار عربية أخرى. ويبدأ الأمر عادة بادعاء شفهي تم يأخذ المستعمرون المتطرفون بالتقاطر الى المكان ،كما نرى في بئر النبي يعقوب في نابلس وغيرها، لتصبح الأثار اليهودية المزعومة منتشرة في جميع انحاء فلسطين. وما تسعى اليه اسرائيل واللوبي الصهيوني في امريكا واوروبا، هو اعتراف الدولة وخاصة الولايات المتحدة و أوروبا بيهودية هذه المواقع حتى تكتسب الادعاءات الدينية الكاذبة قوة سياسية بمرور الزمن. وتشعر اسرائيل ان تنافس الزعماء في امريكا وبريطانيا خصوصا واعلان “صهيونيتهم الضخمة” على حد تعبير رئيسة وزراء بريطانيا ليز تراس وكان قد سبقها الى ذلك ترامب و بايدن حين أعلن صهيونيته اثناء الحملة الانتخابية .
ترى اسرائيل انها أمام فرصة نادرة لابتزاز تلك الدول، وارغام زعمائها على الاعتراف ليس بسيادة اسرائيل على الاراضي العربية، بل بالسكوت عن الحرب الارهابية المتوحشة المتواصلة ضد الفلسطينين في كل مكان، والاعتراف من منظور ديني بيهودية ليس الدولة فقط وانما المعالم التاريخية العربية الفلسطينية، تمهيداً لطلب الاعتراف بيهودية الاراضي. وما تحاول اسرائيل القيام به تجاه المواقع الاسلامية تتهيأ لكي تنفذ نماذج مماثلة له للأماكن المقدسة المسيحية. وما تقوم به إسرائيل من ادعاءات تهويدية على الاراضي الفلسطينية سوف يمتد الى بلدان عربية اخرى. يضاف الى ذلك ادعاء اسرائيل في المعارض والمهرجانات الدولية و وسائط الإعلام و مواقع الإتصال المجتمعي بأن اجزاء كثيرة من الثقافة الفلسطينية انها اسرائيلية سواء في الطعام او الملابس او الأعمال اليدوية أوغيرها.
(4)
هناك حملة قوية جديدة انطلقت من المانيا لتربط مجدداً اسرائيل بالسامية بالصهيونية باليهود. ولأن كثيرا من القوانين في دول اوروبية تجرم معاداة السامية فقد اصبح توجيه الانتقاد لاسرائيل يصنفه الاعلام الرسمي هناك انه معاداة للسامية.وهذا يستدعي ان يستفيق الجانب العربي من السبات ويخرج من الصراعات الاهلية التي كان ولا يزال لاسرائيل دور كبير فيها ليتنبه الى الخطر الذي يشكله الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وحروب تهويد التاريخ والثقافة والجغرافيا. فذلك قد يصل الى اي دولة عربية. وهناك الجهود المكثفة من جانب الولايات المتحدة الامريكية لدمج اسرائيل في المنطقة وفي قلب العالم العربي المعتمد كليا على أمريكا من خلال المداخل الاقتصادية المختلفة، لا لدعم الاقتصاد الاسرائيلي، بل لتمكبن اسرائيل من التحكم في مفاصل اقتصادية عربية كثيرة. ولا يزال بعض السياسيين العرب تخدرهم و تطربهم وتخدعهم الكلمات الدبلوماسية الناعمة، مغمضين العيون عن الحقائق على الارض. فهم يتخّوفون من عودة نتنياهو ويشيدون بمائير لبيد لأنه اشار الى حل الدولتين في خطابه في الامم المتحدة، في حين ان حكومة لبيد ومن سبقه اشد انسياقاً وراء تهويد التاريخ والجغرافيا ولكن بهدوء ودون ضجيج. اما القتل والتدمير فلا زال على اشده. بعض العرب يختبىء من الحقيقة وراء الكلمات .وتدرك اسرائيل ان أحداً لم يعد بعد يساؤلها على اجراءاتها القمعية واللانسانية تجاه الفلسطينيين ولا تجاه تزويرها للتاريخ والجغرافيا واصبح ما يجري في فلسطين من قتل واعتقال ومصادرة الاراضي واختلاق المزاعم الدينية امراً عاديا على الصعيد العربي الرسمي والدولي.
(5)
ان الخروج من هذه الأزمة الصعبة والحرب غير المتكافئة تتطلب تغيير المشهد اولاً:إنهاء الانقسام الفلسطيني بنوايا صادقة وعملية، لان المستفيد الأكبر والوحيد من هذا الانقسام والصانع له هي اسرائيل، وبدرجة هامشية عملاؤها، والمتضرر الرئيسي من الانقسام هو الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية . ولا يعقل ان تستمر القطيعة 15 سنة، وتتدخل الدول من روسيا الى السعودية الى مصر الى الجزائر لعقد المصالحة دون جدوى. ثانياً: ان تتحرك الجامعة العربية والدول العربية وفي حملة دولية لوقف التهويد على اساس تزوير التاريخ وصبغه بالصبغة اليهودية المصطنعة واختراع القصص الدينية لتهويد الارض والجغرافياثالثاً: ان تتحرك منظمات المجتمع المدني العربية وفي مقدمتها البرلمانيون والحقوقيون و الأحزاب للدفاع عن الحقوق الانسانية و الوطنية للشعب الفلسطيني رابعاً:دعم صمود الشعب الفلسطيني من خلال ترتيبات شعبية وبكل الوسائل الممكنة.
خامساً:ان يدرك من يعملون في السياسة والاعلام من العرب ادراكاً يقينياً ان اسرائيل لا تتحدث عن السلام وحل الدولتين إلا من باب الدبلوماسية الخادعة وان القرار الصهيوني الاسرائيلي العميق هو ابتلاع الارض وتزوير التاريخ والثقافة والجغرافيا وامتداد الأذرع الاسرائيلية الى الأقطار العربية في مفاصلها الرئيسية ولا فرق بين زعيم وآخر وحزب آخر في اسرائيل إلا بالكلمات.
إن نضال الفلسطينيين و انتفاضة الشباب وتمسكهم بوطنهم كاملا و دعم الشعوب لهم يبشر بمستقبل مختلف عن أحلام الاحتلال.