أزمة البطالة ودور الجامعات في المواجهة

تتفاقم أزمة البطالة سنة بعد أخرى، ليس من حيث النسبة المئوية والتي بلغت في العام الماضي 25 %، في حين تراجعت إلى 22.6 % للعام الحالي، وإنما من حيث أعداد العاطلين عن العمل. وهذه الأعداد والنسب تخفي وراءها تفاصيل أكثر بؤساً وأشد تعقيدا. فهناك محافظات تصل فيها البطالة إلى مستويات غير مسبوقة. فهي 29 % في الطفيلة و28 % في معان و21 % في عجلون.
من جانب آخر فإن نسبة البطالة لدى خريجي الجامعات تتجاوز 28 % علماً بأن 50 % من قوى العمل الأردنية هم جامعيون. و80 % من خريجي الثانوية العامة يتوجهون إلى المسار الأكاديمي.
ومن جانب ثالث فإن البطالة لدى الإناث الجامعيات تصل الى 78.7 % في حين انها 24.6 % بين الذكور، وهي بين الشباب عموما تتجاوز 50 %.
وقد أكد رئيس ديوان الخدمة المدنية ان هناك 460 ألف طلب لجامعيين في الديوان وبعضهم ينتظر منذ سنوات. هذا بينما أعداد القوى العاملة الوافدة تتجاوز 1.3 مليون شخص. وفي عين الوقت تبين الأرقام أن مساهمة المرأة في سوق العمل ما يزال لدينا من أدنى النسب في العالم وهو في حدود 14 %، بينما ترتفع مساهمتها في دول أخرى كثيرة إلى 30 % و40 % بل وتتجاوز 50 % في كثير من الدول. وهذا يعني ان مجتمعنا يعمل بـ64 % من طاقته الإنتاجية والإبداعية.
الإشكالية مجددا
ما هي المشكلة لدى خريجي الجامعات؟ ولماذا لم يساعد التعليم واسع الانتشار لدينا، ابتداء من الروضة وحتى التعليم العالي، على تغيير هيكلية العمل؟ والاقتراب في أرقام التشغيل على الأقل من دول مثل مصر والمغرب وتونس مثلاً حيث البطالة 7.2 % في مصر و16.1 % في تونس و11.2 % في المغرب؟ بينما يسجل المعدل العالمي للبطالة 6.5 %.
أي تكاد البطالة لدينا تكون 4 أضعاف المعدل العالمي. ومن جانب آخر فإن الاقتصاد الوطني في بنيته الحالية لا يستطيع توليد أكثر من 30 ألف فرصة عمل سنوياً. في حين ان المطلوب يقترب من 100 ألف فرصة عمل سنويا.
صحيح ان خطة التحديث الاقتصادي أشارت إلى التوجه لتوليد 100 ألف فرصة عمل إلا أن هذا التوجه يفتقر حتى الآن إلى الآليات التي يمكن ان تحقق هذا الهدف وأهمها الإنسان المؤهل والإدارة المؤهلة. أن خريجي الجامعات حاليا يتجاوزون 75 الف سنوياً، والجهاز الحكومي ضخم ويضم اكثر من 39 % من القوى العاملة، ولا يستطيع استيعاب أكثر من 8 آلاف وظيفة سنوياً يذهب الجزء الأكبر منها في التعليم والصحة. وهكذا فنحن أمام عجز سنوي يتجاوز اليوم 60 ألف فرصة عمل. ولذا يتحول نصف الخريجين إلى إضافات سنوية للبطالة، خاصة وأن أرقام العجز من المتوقع أن تتزايد عاماً بعد عام.
الجامعات
هل من المعقول أو المقبول أن تأخذ المؤسسات التعليمية، وخاصة الجامعات ومؤسسات التدريب المهني والمدارس، أرقام البطالة وكأنها مسألة اجتماعية وسياسية لا تعنيها مباشرة؟ وانما هي مسؤولية الحكومة والاقتصاديين وليس التعليم؟. مثل هذا الموقف غير مقبول أولاً لأن التعليم هو احد الروافع الأساسية للنهوض والنمو الاقتصادي، وثانيا لأن مبرر الاستثمار في التعليم هو انطلاق المتعلم بعلمه ومعرفته للمساهمة في توسيع الهيكل الحضاري للدولة.
إن القرن الحادي والعشرين والثورة الصناعية الرابعة والتقدم التكنولوجي المتسارع، جعلوا سوق العمل يقوم على الإنتاج المستند إلى العلم والتكنولوجيا والإبداع. وجعلوا سوق الانتاج يعتمد على المهارات قبل الشهادات. الأمر الذي دفع الكثير من جامعات العالم إلى انشاء مؤشر أو دليل لقياس مدى نجاح الجامعة في تمكين الطلبة من الانخراط في العمل وهو دليل التوظيفية والذي يقيس نسبة الخريجين الذين التحقوا بأعمال بعد 8 أشهر من تخرجهم. وهذا يلقي بالمسؤولية الوطنية والأدبية على الجامعات للتحرك نحو مراجعة كاملة لبرامج التعليم والتأهيل والتدريب، لتتحول بجد وفاعلية في الاتجاه الذي يمكن الخريجين من الإنخراط بالعمل سواء لدى مؤسسات قائمة او في مشاريعهم الجديدة التي يقيمونها. وتمكين المتعلمين من منظومة المهارات، في جانبها العام وجانبها التخصصيي وجانبها الانتاجي من جانب ثالث.
ومن هنا فإن التعليم في الجامعات والتدريب في معاهد التدريب يتطلب المراجعة الفورية وفي الاطار التالي:
اولاً: العمل على توجيه قناعات وممارسات الإدارة والأكاديميين بمسؤولية البطالة للتفاعل المثمر مع متطلبات تمكين الطلبة من المهارات، خاصة وان المشاريع الاقتصادية الصغيرة تشكل اكثر من 85 % من مجمل المشاريع الاقتصادية التي ينطلق فيها الافراد بأنفسهم. وبالتالي على المؤسسة التعليمية ان تعد عضو هيئة التدرييس ليكون جزء من هذا الاتجاه بقناعة تامة وتفاعل كامل مع القطاعات الإقتصادية والمستجدات التكنولوجية ولجميع التخصصات.
ثانياً: ان يكون “الاقتصاد والتسويق” ومن منظور تطبيقي مادة دراسية إجبارية ولجميع التخصصات ولمدة سنتين دراسيتين في الجامعة، حتى تكون هذه المادة خلفية قوية لتصحيح توجه الطالب من انتظار الوظيفة الجاهزة الى التفكير فيما عليه هو ان يعمل مستقبلاً.
ثالثاً: توجيه الطلبة للتفكير مقدما فيما يدور بعقولهم من مشاريع أعمال أو فرص وليس انتظار من يعطيهم الوظيفة. بمعنى تأصيل ثقافة الإعتماد على الذات في العمل.
رابعاً: تدريس مادة الريادية وادارة المشاريع للطلبة في السنتين الأخيرتين من المرحلة الجامعية او السنة الثانية من التأهيل المهني كمادة اجبارية ولجميع التخصصات.
خامساً: تمكين الطلبة من مهارة حل المشكلات من خلال برامج تطبيقية ترتبط بالتشبيك مع القطاعات تؤدي الى تغيير عقلية الطالب من انتظار الحلول الجاهزة الى ابتكارها. إن التشبيك الفعال بين المؤسسة التعليمية والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة يمثل حجر الزاوية.
سادساً: تمكين الطلبة من المهارات الرقمية وفي جانبها التطبيقي والتي اصبحت اساسية في كل مجال.
سابعاً: وضع برامج تطبيقية لتأهيل الطلبة من مهارة صنع الأشياء وفق نماذج تتدرج من البساطة الى التعقيد. فالطالب عليه أن يتدرب على صنع النماذج والقطع حتى يكون قادراً على تحويل أفكار وخيالاته الى واقع ملموس.
ثامناً: تمكين الطلبة من المهارات اللازمة للتخصص الذي ينخرط فيه الطالب. وهنا على ادارة الجامعات والمعاهد ان تلزم الهيئة التدريسية لأن تضع دليلاً واضحاً لكل المهارات المطلوبة في اي تخصص بدون استثناء ويكون اجتياز تلك المهارات شرطاً من شروط التخرّج. فالمهارات المطلوبة في الهندسة كالرسم والرياضيات والحساب التقديرية مثلا تختلف عن المهارة المطلوبة في الحقوق كاللغة والخطابة والمنطق والقدرة على الاقناع وهكذا.
لقد كانت المؤسسات التعليمية في العالم المتقدم وخاصة الجامعات ومنذ الثورة الصناعية الأولى تتوافق في برامجها مع بنية الاقتصاد الوطني ومتطلباته وخاصة من منظور الإنتاج
والبحث والتطوير. وهذا ساعد على قيام شراكات متميّزة بين المؤسسات المنتجة للسلع والخدمات، وبين الجامعات ومؤسسات التدريب بل والمنظومة التعليمية بكاملها. بمعنى ان النظرة الى التعليم وخاصة الجامعي والتدريب كجزيرة اكاديمية منفصلة عن الواقع الاقتصادي الاجتماعي وتحولاته، ومفصول عن الإنتاج والتكنولوجيا هي نظرة غير صحيحة، تؤدي إلى تراكم الخريجين الغائبين عن جوهر العمليات الاقتصادية والتوظيفية.
وهذا امر لا يقتصر على تخصص دون آخر. فمن حق كل طالب ان يكون مؤهلاً علميا وعملياً للبدء بمشروع خاص به وبقرار منه شخصياً. إن مجرد إغلاق أو تجميد تخصصات هنا وهناك لا يفيد شيئا. فقد ينجح طالب في المدرسة في اختراع جديد قبل ان يتخصص في اتجاه معين والأمثلة على ذلك كثيرة. ان على المؤسسات التعليمية ان تنظر الى خريجيها كمنتجات ( مع الاحترام) لها دورها ومكانتها في الجسم الاقتصادي الاجتماعي وتكون مقبولة وعليها طلب ولا يجوز أن تكون منتجات كاسدة. هكذا تطورت الصين وقبلها كوريا واليابان وايرلندا وسنغافورة و ماليزيا. واليوم تحث فيتنام الخطى في هذا الاتجاه.
الإدارة
ليس من المعقول أو المقبول أن تأخذ الحكومة أرقام البطالة وكأنها مسألة عادية، فهي تحمل من الاخطار ما يهدد الأمن المجتمعي ابتداء من اتساع مساحة الفقر والتي وصلت 24 % ومروراً بمشاعر البؤس والإحباط وارتفاع نسبة الجريمة والمخدرات، بل وارتفاع نسبة الطلاق وتأخر الزواج. هذا إضافة إلى الهدر الهائل في رأس المال البشري الذي يتم الأستثمار فيه من طرف المواطن ومن الدولة معا.
وقد آن الأوان لتدرك أن لا سبيل للنمو الاقتصادي بمعدلات مقبولة تتجاوز معدلات النمو السكاني ومعدلات مضطردة إلا من خلال تصنيع الاقتصاد الوطني بقطاعاته المختلفة وفق برنامج واضح تضعه الحكومة بالتشارك مع الخبراء والقطاع الخاص والأهلي والأكاديمي في إطار الاقتصاد الاجتماعي الذي يعتمد بالدرجة الأولى على التمويل الوطني للمشاريع.