كانت توقعات نتنياهو وزمرته في الحكومة الإسرائيلية وحلفائهم في أميركا وأوروبا، أن يتمكن من هزيمة المقاومة الفلسطينية واستعادة الأسرى والسيطرة على قطاع غزة بكامله، وأن يتم كل ذلك خلال أيام قليلة، وأقصاها أسابيع اقل. واليوم، وبعد أن أكملت الحرب العنصرية الوحشية على غزة شهرها الخامس، فإن المقاومة صامدة في جميع أطراف القطاع وفي الضفة الغربية، رغم تجاوز الخسائر البشرية أكثر من 100 ألف شهيد وجريح، وتوسع التدمير للمنازل ليتعدى 176 ألف منزل والمرافق والملاجئ إلى درجة محو أحياء وقرى بكاملها، ورغم حرب التجويع وحرمان المدنيين الفلسطينيين من كل وسائل الحياة. وخلال هذه الفترة كانت النداءات ترتفع بضرورة تغيير البنية السياسية للسلطة الوطنية الفلسطينية ولمنظمة التحرير لضمان استمرار صمود المقاومة انطلاقا من أن آمال وآلام الميدان ستكون محركا قوياً للانخراط في التغيير المطلوب. وقبل أيام قليلة فقط قدمت حكومة محمد إشتيه رئيس وزراء السلطة الوطنية استقالتها إلى الرئيس محمود عباس، وفي نفس الوقت دعت روسيا كلا من حركتي فتح وحماس الى لقاء على مستوى القيادات في موسكو للوصول إلى توافق بينهما، وانهاء الانقسام الذي مضى عليه أكثر من 18 عاماً.
ومع ان هذه الاستقالة جاءت متأخرة، خاصة بعد ان تحولت السلطة الفلسطينية إلى مجرد أداة إدارة وترتيب وتنسيق شرطية بيد إسرائيل، رغم كل ما تقترفه هذه «الإسرائيل» من فظائع بحق الفلسطينيين في كل مكان. إلا أن الاستقالة كانت ضرورية حتى تتحرك السلطة الوطنية بما تتطلبه المرحلة وبما اثبتته الحرب في غزة. اولا: ان إسرائيل وعلى مدى السنين الماضية نجحت في تعميق الانقسام بين فتح وحماس وراحت تغذي الانقسام بشتى الوسائل من خلال سياسة العصا والجزرة. ثانياً: ان تصنيف حماس، وفصائل أخرى، كمنظمات إرهابية، وتقاعس الجانب العربي عن التدخل لدى الولايات المتحدة لإلغاء هذا التصنيف، قسم الكتلة الفلسطينية إلى كتلتين متناقضتين، وغدا التصنيف سلاحا بيد إسرائيل وحلفائها لادامة الانقسام الفلسطيني وتفتيت الفصائل وبعثرة التوجهات. ثالثاً: ان الاعتماد على المساعدات الأميركية بشكل مزمن يتحول إلى أداة للابتزاز، خاصة وأن الولايات المتحدة الأميركية لا ترى في فلسطين، بل وفي المنطقة بكاملها، إلا ما تراه إسرائيل. وكل ما عدا ذلك من تصريحات ولقاءات وزيارات إلى العواصم العربية ورام الله ما هي إلا للخداع والتمويه رابعاً: ان ما تقوم به إسرائيل في الضفة الغربية وفي القدس من الزحف البطيء والاغتصاب المتواصل للأراضي الفلسطينية، والانتهاك والسيطرة الزمانية على الأماكن المقدسة وخاصة الأقصى والحرم الإبراهيمي، وما يصرح به زعماء إسرائيل، كل ذلك يبين بشكل قطعي غير قابل للنقاش أو المساومة أن إسرائيل تريد وتسعى وبدعم كامل من حلفائها للسيطرة الكاملة على كامل فلسطين، والتوسع إلى الدول المجاورة. وان السلطة الوطنية الفلسطينية بنظر إسرائيل ما هي إلا شرطي مؤقت (مع الاحترام)خامساً: إن الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا يمنعون وبشكل قطعي أي منظمة دولية أو هيئة انسانية أو محكمة قضائية من اتخاذ أي قرار ضد أسرائيل، ولوكانت تمارس أبشع عمليات الإبادة الجماعية كما تفعل في غزة.
في ظل كل ذلك ماذا بقي من مبرر لاستمرار الانقسام الفلسطيني؟ وعدم إعادة بناء منظمة التحرير الوطنية والسلطة الوطنية لتشارك فيهما جميع الفصائل الفلسطينية؟ وبشكل أساسي حماس وفتح والجهاد الإسلامي وغيرها؟ ماذا يعني التمسك من أي طرف من الاطراف بالمواقف السابقة التي عفا عليها الزمن؟ حين تقتل إسرائيل فلسطينيا أو فلسطينية لا يعنيها إذا كان ينتسب لحماس أو لفتح أو لأي جهة أخرى. فالإسرائيليون يعلمون ابناءهم وبناتهم في المدارس أن العرب متخلفون وجهلاء بل حيوانات متوحشة، ويجب التخلص منهم بكل الوسائل. وقد آن للقيادات الفلسطينية من مختلف الأطراف والفصائل أن تدرك «قيمة» الفرصة المتاحة اليوم. وهي نسيان الماضي، والدخول في الحاضر يدا بيدا، حتى تتم هزيمة العنصرية الفاشية التي يقودها نتنياهو وبن غفير وسموتريش وغيرهم.
يتطلع الشعب الفلسطيني إلى موسكو ليعرف بماذا ستنتهي اللقاءات هناك ويتطلع الى رام الله ليعرف ما هي القرارات التي سيتخذها الرئيس الفلسطيني بالنسبة لتشكيل حكومة جديدة وبالنسبة لمنظمة التحرير.
وإذا كان نتنياهو يتحدث كل يوم وبكل غطرسة وغرور عن اليوم التالي للحرب على غزة، ويضع سيناريوهات تقوم على تكريس الاحتلال والقضاء على المقاومة وتهجير الشعب الفلسطيني.. فإن السؤال الذي يسأله الشعب الفلسطيني للرئيس محمود عباس ولقادة الفصائل: «كيف سيكون اليوم الثاني للحرب من منظوركم؟» هل ستنظرون ان «يهندس» نتنياهو ذلك اليوم التالي؟ ام تستعدون له أنتم منذ اللحظة؟
إن معركة التحرير مع الاحتلال الإسرائيلي ما تزال في منتصف الطريق، رغم محاولات نتنياهو لانهائها اليوم قبل غد. وما لم تستعد كل من الفصائل الفلسطينية والسلطة والمنظمة لليوم التالي للحرب فإن بايدن وجماعته ونتنياهو وجماعته سيفعلون ذلك. وعلى السلطة الفلسطينية والفصائل أن تنتهز هذه الفرصة التاريخية والمتمثلة في عودة الحياة للقضية الفلسطينية بقوة وعمق من جانب، والتعاطف الدولي مع حق فلسطين في الحرية والاستقلال من جانب آخر، تنتهزها من منظور الإصلاح والتماسك والتشارك والبناء.
إن إعادة الموضوع الفلسطيني الى بؤرة الاهتمام الدولي يمثل إنجازاً وطنياً غير مسبوق، وهو يفتح الباب لمرحلة جديدة ينبغي استيعابها لمن هم في رام الله وموسكو وقطر والعواصم الدولية الأخرى فالفرص التاريخية المقبولة من الجميع لا تتكرر.