منذ صدور وعد بلفور عام 1917 كان لبريطانيا الدور الرئيسي في تمكين الحركة الصهيونية من اغتصاب فلسطين عن طريق الخداع والمراوغة وتسليم المهاجرين اليهود الأراضي والسماح لهم بالتسلح والاعتداء وقمع كل تحرك فلسطيني باتجاه رفض المشروع الأنجلوصهيوني، ولم تتوقف عن الدعم السري والمعلن لإسرائيل حتى اليوم. ومنذ قيامها عام 1948 وحتى هجومها الوحشي على غزة واقتحامها المخيمات والبلدات في الضفة الغربية، تحت سمع وبصر التحالف الغربي (أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا بشكل أساسي)، لم تتوقف إسرائيل عن ارتكاب شتى أشكال الجرائم ضد الفلسطينيين ابتداء من القتل والاغتيال والاعتقال والسجن، مرورا بالحواجز وتفتيت التجمعات الفلسطينية وقطع المياه والكهرباء ومنع الغذاء والدواء والمعدات وتدمير الصناعة والزراعة والمساكن والمدارس وتسليط المستوطنين على الفلسطينيين العزل ومصادرة الأراضي، وانتهاء بإزالة القرى والآثار والمجازر الجماعية كآلية رئيسة للتهجير وتوسيع الرقعة التي تغتصبها، وغير ذلك الكثير.
ومن جانب آخر،لا يكاد يمر شهر إلا ونسمع أحد القادة الصهاينة يؤكد المناداة بإسرائيل الكبرى أو حتى إسرائيل التوراتية حتى أصبحنا نرى خرائط يعرضها سموتريتش في باريس ونتنياهو في الأمم المتحدة وتضم الأردن إلى فلسطين التي تسعى أن تسيطر عليها إسرائيل وتلغي وجود فلسطين، وترسم الشرق الأوسط الجديد. هذا ناهيك عن الكتب والمقالات والمجلات والوثائقيات المفبركة والتي ترسم إسرائيل كدولة كبرى في الشرق الأوسط ليس في الاقتصاد فقط وانما في المساحة وفي الحدود والاراضي التي تضمها. هل يختلف ما ينادي به بن غفير بقتل الفلسطينيين ومصادرة اراضيهم عما كان ينادي به مناحيم بيغن قبل 50؟ وهل يختلف ما ينادى به سموتريتش عام 2023 بحرق غزة وبإخضاع الفلسطينيين واستسلامهم او الهجرة أو القتل عما كان ينادي به جابوتنسكي عام 1936؟ إنها ذات العقلية وذات العدوانية وذات النوايا والبرامج.
ومنذ أن ورثت الولايات المتحدة الأميركية بقايا الإمبراطورية البريطانية واعتبار إسرائيل ورقة انتخابية رابحة راح دعمها لإسرائيل يتعمّق، والمساعدات تتزايد حتى تجاوز مجموعها اليوم 168 مليار دولار، إضافة إلى المعونات العينية العسكرية والتكنولوجية. وتمارس ألمانيا وفرنسا وبريطانيا نفس الدور ولكن بأساليب مختلفة تمتد من الشراكات التكنولوجية وصناعة الأسلحة وتنتهي بالدعم في المحافل الدولية.
وفي كل مرة تدخل فيها إسرائيل حربا مع دولة عربية تنهال المساعدات المالية والعسكرية من التحالف الغربي مباشرة كما فعل بايدن وشولتز وماكرون وسوناك في حرب طوفان الأقصى، وإنما غير معلنة، ابتداء من الجسور الجوية بما تحمل من عتاد وآليات، وانتهاء بإرسال القادة والضباط والمستشارين. هذا ومنذ استلامها موقع القطب العالمي لم تتوقف الولايات المتحدة عن شن الحروب على دول في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ولا يكاد يمر عقد واحد دون ان تشن واشنطن وحلفاؤها حربا جديدة نالت منها الأقطار العربية الكثير من الويلات في العراق ولبنان وسورية وليبيا والصومال وغيرها.
لقد جاء الغزو الأميركي وتفكيك الدولة العراقية عام 2003 بضغط قوي من إسرائيل واللوبي الصهيوني إستجابة لإستراتيجية الأمن الإسرائيلي بأن «الأمن الكامل يتحقق حين تصبح إسرائيل دولة كبرى بين دويلات ضعيفة»، وكانت داعش وغيرها من الجماعات صناعة أميركية أوروبية بهدف تحطيم سورية بمشاركة صريحة من أميركا وحلفائها ومساندة وتمويل إسرائيلي غير معلن. وجاء تدمير ميناء بيروت تنفيذا لمخطط السيطرة الاقتصادية الذي تسعى إليه إسرائيل.
لقد عملت إسرائيل وحلفاؤها خلال السبعين عاما الماضية على تفكيك العالم العربي وافشال البرامج العربية المشتركة وتحويل الاهتمام من فلسطين الى نزاعات طائفية أو جهوية أو أشباح خارجية.
بعد كل هذا يتساءل المواطن العربي: ألا تشعر الدول العربية وخاصة القريبة من الكيان الصهيوني بخطر هذا الكيان؟ ألا تستشعر خطورة التحالف التآمري الصهيوني الغربي الى الدرجة التي جعلت الرئيس بايدن يقول «لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدنا إسرائيل»؟ ألا تراقب الدوائر العربية تطلعات إسرائيل التوسعية والتي تبسطها على مدى زمني طويل قد يصل الى 50 أو 100 سنة؟
ماذا يحتاج العرب ليتيقنوا من خطورة المشروع الاستعماري الصهيوني أكثر مما يجري على مدى 78 عاما؟ هل ينتظرون حتى يهدم الصهاينة المغتصبون المسجد الأقصى أو كنيسة القيامة ليصدقوا شرور وخبث النوايا الإسرائيلية الاستعمارية العنصرية؟.
بعد حرب عام 1973 ومناورات هنري كيسنجر الخبيثة خرج الرئيس الراحل أنور السادات بنظرية أن الحل بيد أميركا ولا شيء يتغير ولا سلام يتحقق إلاّ عن طريقها. ولكن أميركا وحلفاءها على مدى 50 عاما أثبتت أنها ليست الوسيط النزيه والحكم الحيادي، وإنما هي والتحالف في كل عملياتها السياسية والدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والتكنولوجية تزيد من تمكين إسرائيل وتمنحها الوقت لكي تهضم ما تبتلعه. وخلال ذلك، تخلق أعداء وهميين للعرب، مرة الاتحاد السوفييتي والشيوعية، ومرة إيران، ومرة داعش، لتحويل أنظارهم عن الخطر الحقيقي: إسرائيل. هل يفكر الزعماء العرب بمستقبل بلادهم؟ هل سيقدم التطبيع حماية للدول والأوطان وليس للزعماء فقط؟ بالتأكيد لا. ولن يمنع الوجود الأميركي في المنطقة الاحتلال الإسرائيلي التوسعي من استكمال مخططاته عندما تلوح الفرص.
إن ما يجري في فلسطين المحتلة اليوم ينبغي أن يكون ناقوس خطر نهائي على مستقبل المنطقة العربية. إذ لم يعد يجدي أن تستغرق دول المنطقة كل جهودها وردود أفعالها الكلامية في إعادة اكتشاف إسرائيل وتآمرها مع التحالف الغربي عند كل عدوان جديد، فعجلة المستقبل تتحرك بأسرع مما يتصوره الكثيرون. إن صمود الفلسطينيين في أرضهم، وانتصار المقاومة، والدعم العربي الفعلي، وانتهاء الاحتلال، وتحرر فلسطين، هو بداية الطريق لمستقبل عربي آمن.