مرونة الدولة… التحدي و الإستجابة

ليس هناك منطقة في العالم يتحدث الناس عن إعادة تقسيمها، وتصدر التقارير من مراكز الدراسات عن إخفاقاتها، وتنتشر الأخبارفي الصحف والفضائيات عن قرب تفككها وانهيارها، كما هي المنطقة العربية .هذه المنطقة التي تشكل 5% من سكان العالم و تستورد 50% من الأسلحة العالمية، و فيها 60% من لاجئي و مهجري العالم،  أصبحت بحق ” رجل العالم المريض ” في هذا القرن. والكثيرون ينتظرون لها مصير الدولة العثمانية قبل مئة عام  . ذلك أن ما تعانيه المنطقة من احداث متوالية، تتراوح بين الهدوء قبل العاصفة ،مروراً بالاحتجاجات والمظاهرات، وانتهاءً بالحروب الأهلية ومحاولات الانفصال، في إطار من التهديدات الخارجية المعلنة ،يكشف بوضوح ضعف  و هشاشة بنية الدولة العربية .ضعف تفاقم اقتصادياً و سياسيا واجتماعياً وثقافياً، و تراكم عبر السنوات. و”هشاشة أفقدتها المرونة و الاستجابة للتحديات” . وهذه الحالة تضاعف من عوامل جذب القوى الخارجية للتدخل في أي شأن عربي تريد ،وتحفز القوى الداخلية المحبطة للتذمر والتمرد ،وحتى التعاون مع الأجنبي. و المنطقة العربية اليوم هي الوحيدة في العالم التي لم تعد تتحكم بمستقبلها كما تفعل الشعوب الأخرى.

لقد شهدت دول كثيرة في العالم تغيرات سياسية و اقتصادية و ايديولوجية و ثقافية  جذرية، ولكنها سرعان ما تماسكت وتوازنت  مسيرتها، وتابعت خطواتها بالنهوض و التقدم .ابتداء من انهيار الاتحاد السوفياتي، ومرورا بدول شرق أوروبا، وانتهاء بعدد من دول أمريكا اللاتينية. كذلك فإن الدول التي وقعت بها هزائم كبرى ودمار ضخم مثل اليابان والمانيا في الحرب العالمية الثانية ،وكوريا وفيتنام، سرعان ما تماسكت الدولة واسترجعت مرونتها، وواجهت التحديات، بل واحتلت مواقع متقدمة في العالم . في حين أن الأقطار العربية تبدو في وضع قلق  و مضطرب جداً، حيث الحروب الأهلية ،و التحالفات والإستعانة بالأجنبي، و عدم إحلال الديموقراطية، وعدم الاستعداد للتعلم من تجارب الأمم الأخرى، و تجاهل توظيف العلم ، لازال سيد الموقف. و تكاد تنهار المنطقة، ليس بسبب حروب خارجية خاطفة، وانما نتيجة الانهاك و تفاقم  المشكلات و عدم القدرة على مواجهتها.

تراجعت الاقتصادات الوطنية على مدى العشرين عاما الماضية، وتعثرت العدالة، وتراجعت الحريات و حقوق المواطنة ،وتم تهميش الأحزاب و منظمات المجتمع المدني و إقصاؤها، وتتابعت الحكومات ” الفردانية” التي لا تمتلك برامج وطنية و أن امتلكت لا تستطيع تنفيذها ، واتسعت مساحات الفقر و البطالة، واستشرى الفساد الصغير والكبير، وتفتت  المواطنة ،واختفت القيادات الوطنية التي تجمع الناس حول الوطن، وتشد من عزيمتهم عند الشدائد، وتكون جزء من آلية التوافق والتصالح والانطلاق.و تضاعف الإعتماد على الدول الأجنبية في كل مجال..

لماذا تغرق المنطقة بمثل هذا المستنقع؟. الأسباب كثيرة ، وفي مقدمتها : أولاً :التشبت بالحكم والسلطة والمواقع والمنافع تحت أي ظرف من الظروف، وحتى لو كان في ظل وصاية أجنبية مباشرة . فالكرسي والمنفعة الذاتية و القرباوية هو غاية نهائية لا يتزحزح العقل العربي عنها، ولو أدى به الحال أن يكون مجرد صورة أو دمية يتم تحريكها. فذلك جزء من ثقافة ترسخت على مدى عشرات أو مئات السنين. وتسربت من الأعلى إلى الأسفل، ولم تستبدل بثقافة خدمة الوطن، وممارسة المشاركة والتداول ،واعطاء الفرصة للآخرين، والإعتراف بالإخفاق بروح رياضية . ثانيـاً : ضعف أو غياب المرونة resilience في بنية الدولة فلا تستطيع الاستجابة للتحديات والظروف المستجدة. و لذا نجد أن “حالة  الاستمرار على نفس النمط مهما حدث تميزالمنطقة العربية “. فكل شيء في نظر الإدارة عادي. البطالة والفقر والاحباط وبطء النمو و إحجام المستثمرين والتذمرو الإحباط لدى الشباب…الخ . كله عادي حتى  يصل إلى نقطة الانكسار . ثالثاً : إن الأنظمة السلطوية والحكومات الفردانية بطبيعتها متخشبة و متكلسة، لا تستطيع أن تحفز مرونة الدولة لمواجهة المتغيرات، لأن المرونة الحقيقية تتأتى من المشاركة الجماهيرية و إبداعاتها و طاقاتها ،ومن الديمقراطية و حركيتها، ومن جوهر التنظيمات الشعبية و تنوعاتها .  وهذا ما ساعد المانيا واليابان على سرعة التعافي بعد هزيمتيهما. ا فالمنطقة بأسرها أصبحت هشة لا تستطيع أن تواجه التحديات.

رابعاً : التهرب من الاصلاح الحقيقي الشامل من باب الاستئثار والأنانية،و عدم الإعتراف بضرورته المصيرية، وخداع النفس بأن الأمور ستنجلي تلقائياً ، أو أن المشكلة ليست من الداخل وانما بسبب الظروف المحيطة و التدخلات الأجنبية.

إن دروس التاريخ و تجارب الأمم المعاصرة تبين بوضوح ،أن الدولة التي يؤمن شعبها بالانتماء الحقيقي لها ،ويشعر المواطن بالمواطنة العادلة فيها، ويقتنع أنه فاعل في مؤسساتها و صنع مستقبلها ،فإن القوى الأجنبية لا تستطيع أن تخترقها، ناهيك عن هزيمتها. وجميع الدول التي عانت من التدخلات الأجنبية كانت محكومة بالقوة والتفرد والاقصاء و الفساد المالي أو الإداري أو المؤسسي  وتتحاشى الاعتراف بالفشل والإخفاق و بحق المجتمع في إلإختيار . وأهم من كل ذلك انها كانت “ترفض الاصلاحات و تستديرحولها و تغني لها” ،وتتجنب القيام بالتغيرات التي تقتضيها المرحلة.

لقد أضاعت المنطقة زمناً طويلاً وهي تتهرب من مواجهة الواقع والتصالح مع الذات، وتغيير رؤيتها وموقفها بأن الاعتراف بالخطأ ليس هزيمة،والاصلاح بناء على طلب الجمهور وضغوطاته ليس ضعفا ولا انكساراً، وتداول السلطة ليس انتقاصاً من الكرامة . وانما العار والهزيمة ان تعجز الدول عن التجاوب مع متطلبات التغيير وتتخشب أمام الإصلاح ، وتفقد المرونة أزاء التحديات فتصبح عرضة للاختراق و الانكسار أو الانفجار.

بدون الاصلاح الشامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي لا يمكن الصمود أمام القوى الأجنبية المتدخلة من جهة، وأمام الشعوب المتطلعة إلى غد أفضل من جهة أخرى. إن طبول الحروب تقرع في كل مكان، والقوى الأجنبية تتحفز لتحريك عملائها ، واسرائيل تتربص المنطقة حتى تنقض على من يجاورها . فهل تنتبه كل دولة إلى حالتها ؟ وتعلن الاصلاح بقوة وثقة ؟ فالمستقبل أكبر من اي سلطة لهذا الفرد أو تلك المجموعة، والمستقبل الأفضل لا يتحقق بالاعتماد على الأجنبي ، وانما  بمرونة الدولة المستندة إلى القوة الذاتية للمجتمع، واعطائه الفرصة للابداع في الإختيار من خلال حكمائه و علمائه و خبرائه و أحزابه و مفكريه و شبابه ،و المواجهة للبناء من جديد.